لايجد المصريون الوقت الكافي لتأمل الحال الذي يمرون به الآن. بصرف النظر عن حسابات الربح والخسارة ولكن من سيأتون بعدنا من المؤرخين. سينظرون لهذه الأيام التي نمر بها بكل عيوبها وآلامها بل وأزماتها علي أنها أيام أكثر من مهمة بل ربما كانت خطيرة لأنها شهدت تحولا مهما - إن تم - قد يكون التحول الأهم في حياة المصريين في العصر الحديث والتاريخ خير شاهد. المصريون الذين حكمتهم الأسرة العلوية في الفترة من 1805 حتي 1952 . ورغم ما قدمه محمد علي ووارثوه من الأبناء والأحفاد لمصر والمصريين. ورغم أنه ينظر إلي محمد علي علي أنه المؤسس الأول لمصر الحديثة من قبل بعض المؤرخين. مع أن هدفه الأول كان تأسيس إمبراطورية عظيمة عاصمتها القاهرة وتقودها مصر وتتوارثها أجيال أسرته من الأنجال والأحفاد وأحفاد الأحفاد إلا هذه المسألة جانبية قد تأخذنا بعيدا عن الهدف الذي أكتب من أجله ألا وهو توصيف اللحظة الراهنة في مصر : هنا والآن. والتاريخ - مرة أخري - خير شاهد . اعتبارا من سنة 1952 وبعد ثورة 23 من يوليو التي بدأت بانقلاب عسكري أيده الشعب فأصبح ثورة . كان ثوار يوليو قد أطلقوا عليها في البداية الحركة المباركة ثم كانت لدي طه حسين جرأة أن يسميها ثورة وهو من أول منحها هذا الاسم. بعد هذه الثورة حكمت مصر رموز المؤسسة العسكرية .وأنا هنا لن أقع في خطأ المساواة بين محمد نجيب رئيس الصدفة جاء به الضباط الأحرار قبل الثورة بأيام من أجل أن يعملوا من وراء شماعته . أي أن يكون واجهة. كانوا يخافون من حداثة سنهم. كانت أعمارهم تبدأ من الثلاثين وتنتهي عند الخمسة والثلاثين. ورتبهم كانت صغيرة تبدأ من النقيب وتنتهي عند المقدم . ثم جاء عبد الناصر صاحب التجربة العظيمة و الإنجاز الذي بلا حدود والأخطاء المحدودة التي ضخموها بعد رحيله ولم يعد هناك كلام إلا عن الأخطاء. قال لي شاعر العراق العظيم محمد مهدي الجواهري في جلسة طويلة في أواخر سبعينيات القرن الماضي في بيته بحي المنصورة في بغداد قبل هجرته من قطره العراقي إلي وطنه العراقي الكبير وإلي عالمه المترامي الأطراف. قال لي : أن عبد الناصر كان عظيم المجد والأخطاء. قلت له لكنه في النهاية حاول أن يرسي دولة مدنية حديثة للعلم أساس في بنيانها. مالم أقله للجواهري في ذلك الزمان البعيد أتوقف أمامه الآن. الا وهو البند الناقص في أهداف ثورة يوليو الستة : وهو إقامه حياة ديمقراطية سليمة. وأيضا بعض تجاوزات الأجهزة الأمنية في مسألة الحريات والاعتقالات والتعذيب. لا يصدق أحد مايقال الآن عن تضييق الحريات في الكتابة والقول والتحليق بالأحلام. كل ما كتب في سنوات يوليو نشر وقدم علي المسرح وصور في السينما وعرض في التليفزيون وما نسمعه أحيانا في أيامنا حكايات لا أساس لها من الصحة. وكما تحركت أوربا في القرن الثامن عشر لضرب محمد علي. تحرك العالم الجديد لضرب عبد الناصر مستخدما في ذلك العدو الإسرائيلي الصهيوني. ورغم نجاح الضربة للأسف الشديد - فإن أسس حرب السادس من أكتوبر وضعت في زمن عبد الناصر. وجاء السادات ومن بعده خرج من رحمه مبارك الذي كان امتدادا له. للسادات تحسب حرب أكتوبر التي كانت حرب الجيش المصري العظيم وإلتف حوله الشعب المصري الأعظم. كان للسادات قرار العبور. وتحسب للسادات التعددية الحزبية. البند الذي ظل مؤجلا لسنوات طويلة من برنامج يوليو 52 . ولكن يؤخذ عليه الانفتاح الذي كان "سداح مداح" حسب تعبير حبيبنا واستاذنا وعقلنا المستنير : أحمد بهاء الدين أما الفساد الرهيب والنهب المنظم للوطن وزواج المال بالسلطة واستباحة الوطن وغروب دور مصر العربي والإسلامي وترنح اسمها في العالم الثالث والدنيا كلها. فقد جري كل هذا بشكل منظم ومؤسسي في زمن سلفه وخلفه الذي كان امتدادا له لم يضف إنجازا لكنه أحدث سلبيات جرفت البلاد ومن عليها وتركت الشخصية المصرية جريحة تنزف وتطلب الأمان. والآن المصريون أمام مفترق طرق إما طريق السلامة أو طريق الندامة أو طريق " إللي يروح مايرجعش " لقد فكرت أن أبدا هذا المقال بالعبارة التقليدة التي كانت تقول : في هذه اللحظة التاريخية من حياة مصر حيث يصنع التاريخ أمام أعيننا وتحت سمعنا . ولكن ولأن العبارة استهلكت صرفت النظر عنها . والآن المصريون أمام تحد يعد الأول من نوعه: من الذي سيحكمهم؟ هم الذين سيأتون به .بينهم وبينه الصناديق. إن أحسن كان بها. وأن إساء ميدان التحرير موجود . أعرف أن الأمور ليست بهذا القدر من التبسيط المخل . وأن هناك صعوبات كثيرة في الأمر وأن المراحل الانتقالية من زمن صمت القبور إلي محاولات بناء مصر الجديدة . عملية متداخلة ومركبة ومعقدة . مشكلتنا في هذه المرحلة الانتقالية أن الماضي يشغلنا عن الحاضر. ولذلك أخشي علي المصريين أن يطلق المستقبل نيرانه عليهم . وأن حدث هذا لاقدر الله ولا كان لا أعرف ماذا سيكون عليه الحال. المستقبل الآن كان عنوان محاضرة قبل سنوات لأستاذ الأساتذة : محمد حسنين هيكل أستعرتها عنوانا لي حتي نتذكر في كل لحظة أننا نبني مستقبل مصر الآن .