لولا أن الثقافة تضع في أذنها اليمني قطعة طين، وفي اليسري قطعة عجين، لكانت سمعت كلام ناصحيها، فتستغني عن عنادها، وتوقف برامج التوسع في استزراع قرعها الثقافي، ثم تلغي تهييصاتها الثقافية بنوعيها: المحلية أم رز »بلدي« وطاقية، والدولية »أم مهموز« وبرنيطة، فتتفرغ لصناعة متعة الوجدان، التي كفت »ماجورا« ثقافياً علي خيرها، مع أنها كصناعة تعد المهمة الأصلية للثقافة، أما كمنتج فتعتبر المكون الأساسي للتقدم المنشود في كل مجال، ولكن متعة الوجدان كصناعة تتطلب قدرات فنية خاصة معدومة في الثقافة الحالية، أما متعة الوجدان كمنتجات فاستبدلتها الثقافة بمنتجات أخري »مضروبة« ورديئة، كمنتج التهييص الفارغ من المضمون، تماماً كالإطار الخشبي الفارغ من لوحة فان جوخ بمتحف محمود خليل والمسروقة للمرة الثانية، ويبدو أن »الحداية« التي خطفت زهرة الخشخاش هذه المرة، قد باعتها »لتجار الصنف« فاستخدموا الزهرة النادرة في إنتاج »الكيف العالي« بدليل أنواعه المنتشرة بالأسواق حالياً. والمؤسف أن الثقافة نسيت الزهرة، وكفت علي خبرها ماجوراً ثقافياً آخر كالذي كفته علي صناعة متعة الوجدان، ولكن المؤلم أن أصدقاء الثقافة وأقاربها لا يدافعون عنها ولا عن »دكاترتها« القدامي والجدد لمساعدتها في الخروج من أي أزمة ثقافية جديدة، قد تستغل عالمياً أو محلياً في التشهير بها، كأزمة عطاياها ومنحها ومؤتمراتها وندواتها، فالمنح الثقافية والعطايا، تعمل بحكمة صديقنا »جحا الثقافي« القائلة: »جحا أولي بلحم ثوره«.. أما المؤتمرات الثقافية المنتظمة والطارئة فتعتمد أيضاً علي نظرية أخري للصديق »جحا« يقول نصها الرصين: »تراعيني إعلامياً قيراطاً.. أراعيك ثقافياً بمؤتمرين«.. لكن الندوات الثقافية، تقام تبعاً لنظرية مغايرة وأكثر حداثة من نظريات »الأخ جحا« مثل النظرية المتطورة، التي يقول نصها الثقافي المحكم: »أعطني ندوة عندك.. أعطيك مثلها عندي«. ولا ينكر أحد براعة الثقافة في التكتم علي مسائلها، حتي لا يعرف خصومها شيئاً عنها، منعاً لحدوث فضائح ثقافية جديدة، كمهزلة اختفاء لوحة فان جوخ، ومن بركات دعوات »أم« الثقافة لها: أن مهازلها لا تشغل الجميع الآن، لاهتمام الكل بالمسلسلات المنقوعة في مياه البرك، وبالأونطة الفضائية، التي تحول مياه البحر »الأسود« إلي طحينة بيضاء. وأشد آلام الثقافة تأتيها دائماً من أهلها وأعز أصدقائها، فمثلاً عندما خطفت الحداية لوحة الزهرة المشهورة، لم يساعدها أحد في العثور عليها، حتي التليفزيون كصديق عزيز للثقافة، لم يستجب لطلبها، بتكليف المفتش العبقري »كرومبو« للبحث عن اللوحة الغالية الضائعة، كما رفض أيضاً بشدة- آنذاك- أن تؤجل زهرته (الصغنونة) اليانعة بحثها عن الزوج الخامس لتبحث للثقافة عن زهرتها المفقودة، وبرر التليفزيون رفضه المؤلم بأن زهرته الحبوبة خبيرة فقط في البحث عن أزواج لا عن اللوحات المسروقة، وهكذا وجدت الثقافة نفسها وحدانية- كالعوانس- بعد تخلي الجميع عنها في محنة ثقافية قاسية. ولكن من المأمول أن تستفيد الثقافة مما حدث لها سابقاً، أو من الأحداث التي تجري في البلد حالياً، فتنبه علي كل أنجالها، بألا يضعوا قطعتي الطين والعجين في آذانهم كالمعتاد، وأن يهتموا بما يقال لهم من نصائح، فجرجرة الكبراء للنيابة، أو كبسهم في »البوكس« لم يعد أمراً مستحيلاً كما كان من قبل، كما أن »الأمرين« اللذين كانا من نصيب غلابة الثقافة والمقاطيع الثقافيين وحدهم سيذوقهما قريباً كبراء الفساد الثقافي وأباطرة »هبر« الثقافة ومن علي رؤوسهم »الريشة الثقافية« أيضاً، ومن المؤكد أن آمالنا الثقافية ستنتهش قريباً بصدور القرار الذي طال انتظاره بإنشاء هيئة خاصة لمكافحة الفساد الثقافي، وإعادة فتح وتشغيل »مصانع متعة الوجدان« التي »خصخصت« الثقافة أفضلها، وأغلقت بقية مصانعها »بالضبة والمفتاح« لتسكنها الفئران، بحجة استنساخ »ميكي ماوس« محلي لمنافسة مثيله الأجنبي. فعند اكتمال هيئة مكافحة الفساد الثقافي، وشروعها في تأدية واجباتها، نصبح في غني تام عن مسلسلات التليفزيون المنقوعة في مياه البرك، ولن يضيع وقتنا في البحث عن القنوات الفضائية، التي تحول »البحر الأسود« إلي طحينة بيضاء، وبمضي الوقت، تعود للكتاب »الورقي« مكانته كأفضل جليس في الزمان، ومن يدري فقد تجد الجماهير »المتعطشة« أعمالاً ثقافية حقيقية أكثر إمتاعاً، وألذ »طعماً، فالمتوقع في حالة كهذه، اقتراب جماهيرية المواد الثقافية والإبداعية الحقيقية من جماهير العيش الظلطي، وربما تكون الهتافات »المؤيدة« لها، أعلي من هتافات المشجعين والمتعصبين كروياً للأهلي أو للزمالك في مباريات »القمة«. وحتي لا تنسي الثقافة لوحتها »الفقيدة« التي خطفتها الحداية وطارت، عليها أن تقيم لها بانتظام »تهييصة« ثقافية معتبرة، لإحياء ذكراها العطرة.