سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 30-9-2024 مع بداية التعاملات    حصيلة الغارات الإسرائيلية على لبنان خلال 24 ساعة.. استشهاد 109 وإصابة 364    «القاهرة الإخبارية»: أنباء تتردد عن اغتيال أحد قادة الجماعة الإسلامية بلبنان    لبنان: استشهاد 53 شخصا وإصابة العشرات في أحدث الهجمات الإسرائيلية    الحوثيون في اليمن: لن تثنينا الغارات الإسرائيلية عن مساندة الشعب الفلسطيني واللبناني    رسميا.. حزب الله يؤكد اغتيال القيادي في صفوفه علي كركي    «لو كنتب موجود مكنش هياخد هداف الدوري».. سيف الجزيري يتحدى وسام أبوعلى    بعد الهزيمة أمام الزمالك.. 4 أسماء مرشحة لمنصب مدير الكرة ب النادي الأهلي    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 30-9-2024    شراكة استراتيجية مع «الصحة العالمية» لتعزيز نظام الرقابة على الأدوية في مصر    نقيب الفلاحين: الطماطم ب 50جنيها.. واللي يشتريها ب "أكثر من كدا غلطان"    10"بعد إصابته في الركبة".. 10 صور تاريخيه محمد هاني مع النادي الأهلي    ملف يلا كورة.. إصابة هاني.. تصريحات لبيب.. وتألق مرموش    محمد أسامة: جوميز من أفضل المدربين الذين مروا على الزمالك.. والونش سيعود قريبًا    التعليم تزف بشرى سارة ل "معلمي الحصة"    إصابه 4 أشخاص إثر اصطدام دراجتين ناريتين في المنوفية    العثور على جثة حارس مهشم الرأس في أرض زراعية بالبحيرة    أحلام هاني فرحات بين القاهرة ولندن    10 تغييرات في نمط الحياة لتجعل قلبك أقوى    5 علامات للتعرف على نقص الفيتامينات والمعادن في الجسم    مستقبل وطن البحيرة يطلق مبادرة للقضاء على قوائم الانتظار    صناع السياسة في الصين يتعهدون بدراسة تدابير اقتصادية تدريجية    الصين تتجه لخفض أسعار الرهن العقاري لإنعاش سوق الإسكان    من خلال برنامج القائد| 300 ألف يورو لاستكمال المركز الثقافي بالقسطنطينية    أجواء حماسية طلابية في الأنشطة المتنوعة باليوم الثاني لمهرجان استقبال الطلاب - (صور)    دونجا يوجه رسالة نارية ل إمام عاشور: «خليك جامد احنا مش ممثلين» (فيديو)    طبيب الزمالك يكشف آخر تطورات علاج أحمد حمدي    سعر استمارة الرقم القومي يصل ل 800 جنيه.. إجراءات جديدة لاستخراج البطاقة في دقائق    انطلاق أولى ندوات صالون المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي    هل 200 جنيه للفرد شهريا «مبلغ عادل» للدعم النقدي؟.. أستاذ اقتصاد يجيب (فيديو)    المقاومة العراقية تحذر من إستخدام العراق منطلقا لعمليات التحالف الدولي ضد سوريا    مفاجآت سارة ل3 أبراج خلال الأسبوع المقبل.. هل أنت منهم؟    المفتي: الإلحاد نشأ من أفهام مغلوطة نتيجة خوض العقل في غير ميدانه    «الإفتاء» توضح حكم تناول مأكولات أو مشروبات بعد الوضوء.. هل يبطلها؟ (فيديو)    بايدن: سنواصل الوقوف إلى جانب أوكرانيا    السعودية تعرب عن قلقها البالغ إزاء الأوضاع الأمنية في لبنان    صالون التنسيقية يفتح نقاشا موسعا حول ملف التحول إلى الدعم النقدي    مكون في مطبخك يقوي المناعة ضد البرد.. واظبي عليه في الشتاء    جامعة المنيا تقرر عزل عضو هيئة تدريس لإخلاله بالواجبات الوظيفية    مقتل 3 أشخاص من عائلة واحدة في مشاجرة على ري أرض بأسيوط    الأنبا باسيليوس يترأس قداس المناولة الاحتفالية بكاتدرائية يسوع الملك    السفيرة الأمريكية لدى مصر تشارك في فعاليات برنامج "هى الفنون" بالقاهرة    محافظ جنوب سيناء: 15% زيادة متوقعة بحجم الإقبال السياحي في أكتوبر ونوفمبر المقبلين    د.حماد عبدالله يكتب: فى سبيلنا للتنمية المستدامة فى مصر !!    زوج أمام محكمة الأسرة: «كوافير مراتي سبب خراب البيت» (تفاصيل)    نسرين طافش أنيقة وفيفي عبده بملابس شعبية.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| اعتذار شيرين لشقيقها وموعد عزاء زوجة فنان وانطلاق مهرجان الجونة السينمائي    تامر عبدالمنعم بعد رئاسة "الفنون الشعبية": طالما لدي شباك تذاكر فالمسرح يهدف للربح    نابولي يفوز على مونزا 0/2 ويتصدر الدوري الإيطالي مؤقتا    "الحماية المدنية" تسيطر على حريق هائل في سيارة تريلا محملة بالتبن بإسنا جنوب الأقصر    جثة أسفل عقار مواجهة لسوبر ماركت شهير بالهرم    سقوط غامض لفتاة يثير لغزًا في أكتوبر    الفرح بقى جنازة، مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم جنوب الأقصر    عميد معهد القلب يكشف تفاصيل إنقاذ حياة شاب بعملية الأولى من نوعها    هل يجوز أن أترك عملي لأتابع مباراة أحبها؟.. رد صادم من أمين الفتوى لعشاق كرة القدم (فيديو)    إبراهيم رضا: الزوج الذي لا يعول أولاده خان علاقته بالله.. فيديو    مفاجأة حول المتسبب في واقعة سحر مؤمن زكريا.. عالم أزهري يوضح    الموت يفجع الشيخ أحمد عمر هاشم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاث ساعات من الحوار المتوهج في الثقافة والسياسة والدين والمجتمع
المفكر الكبير د.صلاح فضل يجيب علي »الأسئلة الجارحة« في منتدي الشهري
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 09 - 2012

دعت أسرة تحرير "أخبار الأدب" المفكر الكبير والناقد المعروف الدكتور صلاح فضل الذي يتجلي قامة ثقافية وقيمة معرفية، تفيض بالكثير من الدلالات..دعوناه لاثارة الأسئلة المسكوت عنها فإذا به يدعونا لطرح "الأسئلة الجارحة" فكان الشوق للحوار متبادلا، اشتعلت علامات استفهام، وانطفأت علامات تعجب، تداخلت ثقافة الأسئلة ولابد أن تتداخل- بين الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية والنقدية، وكلها نابعة من قلب المشهد الراهن بتناقضاته ومفارقاته وأشواقه وعذاباته.
جلس الدكتور الناقد بيننا ليتلقي الأسئلة من كل اتجاه..الأفق واسع..والصدر منشرح..والفكر متدفق..والسؤال ينجب جواباً، والجواب ينثر شظايا..التعبيرات محددة..والعبارات جديدة..والرؤي تعصف بالنظام الثابت للأشياء..والأطروحات واضحة فالوضوح عمق! وما أشد حاجتنا الي التعمق والنفاذ إلي ما وراء ما يجري..وما يحدث..وما سيكون..فما أحوجنا إلي من يمتلك حدس "زرقاء اليمامة" في هذه الأجواء الضبابية..وهل مثل "النقد" وسيلة للنفاذ إلي عمق الأشياء والظواهر.
وإذا أردنا تثبيت معتقد، أو نشر فكرة أو تأكيد دعوة فلن نجد مثل الآداب ما يتحمل هذه المسئولية التنويرية.
د.صلاح فضل:
أنا مؤمن بأن عملي الأساسي هو النقد. والنقد الأدبي لابد أن يشع برؤية لمختلف جوانب النقد:الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والحضاري. النقد قريب جداً من تعريف اليسار، فتعريف اليسار الجوهري هو عدم الرضا بما هو كائن والبحث عن الأفضل، وعمل الناقد الجوهري أن يلتقط ويقيّم بنزاهة وحياد القاضي، ويلتقط نقاط الضعف ويعرف مكانها، ويفرح لدرجة الجذل الطفولي بنقاط التوهج والقوة، ولو فقد حياده كقاض وقدرته علي التقييم، فإنه يصبح فاقدا لمصداقيته وصلاحيته.
النقد يبحث عن المواجهات حتي الساخنة، بمعني أنه بالتأكيد لكم ملاحظات عليّ، وأنا من الجيل السابق، وربما ينتابكم عدم الرضا عن هذا الجيل، عدم اقتناع به، لكم مآخذ جوهرية عليه، لكن يظل من الضروري أن نتحاور معا، أريدكم أن تختاروا الأسئلة الجارحة، لأنكم بذلك تعطونني فرصة أن اقترب منكم أكثر، وأنا حريص علي ذلك، وفي الجامعة أحرّض تلاميذي علي ذلك، لكن أتحفظ تحفظا واحدا، وهو ألا يفعلوا ذلك إلا معي، لأنهم عندما يطبقون ذلك مع أساتذة آخرين تحدث كارثة، لا يتحمل الأساتذة ذلك، وأنا أعرف أساتذة "بيسقطوا" طالب لأنه تحداهم في سؤال! أما أنا فالطالب الذي يتحداني في سؤال أفرح به، وأحاول أن أقابله بعد المحاضرة.
كرابيج السمطي
يعني مسقطش ولا طالب قبل كده"؟
- بالعكس أنا دافعت عن طلاب ظلموا، وأضرب لكم مثالا، عبد الله السمطي كان طالبا في آداب عين شمس، كان ذكيا جدا ومثقفا ومازال، لكن متوحش، قادم من حي عشوائي و"مفيش حد له هيبة عنده" وكان في القسم أستاذ كبير في السن، وديكتاتور كان الطالب الذي لا يقبّل يده من الأوائل لا يعين معيدا، كان عنيفا جدا، وكان له كتاب ضخم اسمه "بين القديم والجديد" المهم عبد الله تحداه، وقال له "لو فكيت دبوس الكتاب كل ورقة هتروح لصاحبها" وطبعا في الامتحانات فرز هذا الأستاذ أوراق جميع الطلاب ورقة ورقة بحثا عن اسم عبد الله "عشان يسقطه مهما كان كاتب" لكنه لم يجد، وسألني وقلت له انه لم يدخل الامتحان، وهو كان قد دخل الامتحان فعلا لكن اسمه الرسمي اسم آخر، وفعل الأمر نفسه في السنوات التي تليها وأجبت الإجابة نفسها. المهم أني ابتليت بعد ذلك بكرابيج عبد الله الذي دافعت عنه، لكني لست غاضبا منه. أنا غاضب منه لشيء واحد، وهو انه أعد معي رسالة دكتوراة ممتازة عن قصيدة النثر، تستحق الدرجة عن جدارة، لكنه للأسف رسب في اختبار التويفل، ولمدة خمس سنوات، ولم يحصل علي الدرجة، غضبت منه ليس لأنه أساء لي، ولكن لأنه أساء لنفسه.
الجيل الحالي يخلو من الأعلام!
كنا نناقش فكرة الأجيال، جيلكم وما سبقه من أجيال، لكن الملاحظ أن كتاباتك في الأهرام كلها تكاد تكون مخصصة لإنتاج الشباب، فهل الحكمة العربية "أواه لو عرف الشباب، وآه لو قدر المشيب" تمتزج بهذه الرؤية، وهل هناك صراع أم تسلسل بين الأجيال؟ وما انعكاسه علي الحياة الثقافية، وعلي التلاحق الفكري إذا جاز التعبير؟
- في تقديري أن الأجيال الماضية إلي حد ما كانت متقاربة، يمكن أن نتصور أن القرن العشرين شهد ثلاثة أجيال، الجيل الأول كان طه حسين أعلي الأصوات فيه وأكثرها تميزا، وبلورة لرؤية حضارية، وتحديدا لمنظومة قيم ثقافية وعلمية، واستحق بطريقة عفوية أن ينصب عميدا للأدب العربي، وهذا الجيل بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وامتد ظله علي العقود الثلاثة اللاحقة، جيل طه حسين أثر تأثيرا قويا وعميقا، وكان فيه إلي جوار طه حسين العقاد وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل وكانوا يطلقون علي
لطفي السيد أستاذ الجيل، وكنا عندما نقرأ كتاباته وترجماته ندرك أنهم لم يستطيعوا نقل هذه الأستاذية إلينا، لم يقنعونا بأن يظل لطفي السيد أستاذا لنا نحن أيضا، لكن يبدو أنهم تأثروا بشخصيته، وكان من قادة الفكر الحقيقيين، الجيل التالي ألمع وأعظم نجم فيه كان نجيب محفوظ، وكان معه أيضا كوكبة من الروائيين والشعراء والكتاب والنقاد، لكن كان محفوظ هو من عبر عن أحلام الجيل وعن ضميره ووعيه.
كان هدف الجيل الأول هو الاستقلال، كان هو المحور الأساسي بالإضافة إلي الانفتاح علي العالم الحضاري الحديث، الجيل التالي كان يبحث عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، منظومة القيم تحولت لدي الجيل التالي ولذلك كان جوهر رؤية نجيب محفوط هو الدفاع عن الليبرالية والفكر الحر والعدالة الاجتماعية، نجيب أدخل الطبقات المهمشة لأول مرة في الأدب العربي الحديث، بطريقة بالغة القوة والعظمة، هو لا يلغي أبناء جيله لكنه يصلح أن يكون عنوانا لهم. الجيل الثالث الذي شغل الثلث الأخير من القرن العشرين، كان فيما يبدو أن المسافة بينه وبين الجيل السابق قد بعدت كثيرا، لم يستطع شخص واحد حتي الآن في تقديري- أن يبلور رؤيته، أو يصبح علما عليه، أو يلعب دور القائد له، تعددت قيادات هذا الجيل.
هل يمكن تحديد هذه المرحلة؟
- من الستينيات حتي نهاية القرن، وعدم القدرة علي تحديد الأفضل أو القائد هو أبرز خصائص هذا الجيل.
وفي أي الأجيال تضع يوسف إدريس والشرقاوي؟ هل فيما بعد نجيب محفوظ؟!
- لا. صحبوه قدرا من الزمان، ثم استمروا بعده، لكن لا يوسف إدريس وحده يصلح ذروة لهذا الجيل، ولا عبد الرحمن الشرقاوي وحده، ولا صلاح عبد الصبور وحده، مع أن الأخير كان من أنضج من بلوروا رؤية هذا الجيل علي وجه التحديد في مسرحه الذي كان ينشد فيه للحرية والعدل، النجمتان الأساسيتان. لكن في الجيل الثالث تعددت القيادات، ولم يعد بوسع مبدع واحد، أو مثقف واحد أن يكون ملخصا لأبناء جيله.
انقلاب في منظومة القيم
هذا التقسيم خاص بمصر فقط، وليس العالم العربي؟
- حتي الجيل الثاني نستطيع ان نقول أن مصر قادت الفكر العربي، فلم يسبق أحد نجيب محفوظ أو يتفوق عليه، رغم محاولات مبدعين كبار منهم الطيب صالح، لكنه لم يستطع، والشعراء أيضا حاولوا، لكن ابتداء من الجيل الثالث توزعت عبقرية الإبداع العربي علي بقية المناطق العربية، وتباعدت المسافة بين التخصصات والأجيال فأصبح من العسير أن نجد شخصية واحدة تلخص الجيل. الآن ومع الجيل الرابع الذي بدأ في القرن الحادي والعشرين المسافة مهولة، لعدة أسباب أولها الطفرة التكنولوجية الرهيبة التي جعلت منهم وكأنهم ينتمون لعوالم مختلفة، حتي أتعلم شيئا من تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أستعين بحفيدي وليس بابني! وتكون مفارقة جميلة عندما يعلمني كيف أضع مقالي في "الاسكانر" ثم أطلب منه أن يقوم ليذاكر، فيقول "دا أنا لسه معلمك، هتعمل عليا أستاذ!". الطفرة العظيمة ليست فقط في التكنولوجيا، فلم تعد الايدولوجيا مثلا هي الفاصلة بين الأشخاص، الايدولوجيا ذابت نسبيا، وانمحت سطوتها في نهاية القرن العشرين، وسقطت تقريبا، لكن ماذا حدث؟ أصبح أمامنا انقلاب حقيقي في منظومة القيم، عن طريق أجهزة الاتصال الحديثة، ابتداء من الفضائيات إلي الحياة الرقمية، تغير الحس الجمالي لدي الإنسان المعاصر، وأصبح أكثر تنوعا وثراء، في العالم كله، وفي مصر بالضرورة، فمصر ليست معزولة علي الإطلاق، فهي منذ بداية القرن العشرين وضعت نفسها في قلب العالم المعاصر، وكل الذين يقولون ان مصر يمكن أن تكون معزولة عن العالم وان قوانين الحرية والعدل والحق والجمال فيها يمكن أن تمضي علي نسق مخالف لما يمضي عليه العالم واهمون وسذّج، لا يدركون التغيرات العميقة، وعلي وجه التحديد المتشبعون بأفكار بعض التيارات الدينية الذين يتصورون أن بوسعهم شد مصر إلي الوراء، وإعادتها إلي ما قبل القرن العشرين، وخلق منظومة من القيم خاصة بها، مخالفة لمنظومة القيم التي أثمرتها الحضارة الإنسانية المعاصرة.
أصوات غوغائية
تتحدث عن القيم والوجه الحضاري وما يحدث علي الساحة الآن، ألا يصيب بالإحباط؟
- ما يحدث يدعونا لشيء من التأمل، فمن الطبيعي أن نجرح عندما يمس أحد مشاعرنا الدينية، لكن ليس من الطبيعي أو الانساني أن يكون رد فعلنا علي ذلك هو بتلك الطريقة الغوغائية العدوانية التي كأنها تضمر عداء للآخر، هذه الجماعات في حقيقة الأمر تفعل ذلك لأنها كانت تعيش داخل الكهوف، ولم "تنقع" في الثقافة المصرية طيلة القرن العشرين، لو كانوا يعرفون شيئا من الفلسفة، يطالعون معارض فنون تشكيلية، يسمعون قدرا من الموسيقي العربية والغربية، يقرأون قدرا من الأدب، يتابعون الأفلام الأجنبية والعربية، لو تشبعوا بروح الثقافة المصرية والعالمية المعاصرة وكلاهما ليس بينهما أي حجاب، لكانت غرائزهم العدوانية أكثر إحكاما وانضباطا، لذلك سنجد فرقا بين التعليق الذي تصدره هيئة كبار العلماء وشيخ الأزهر، وبين التعليق الذي يصدره المهيجون السياسيون من ذوي النزعات العدوانية الذين ينتهزون الفرص للانتقام، قارن بين خطاب هؤلاء وخطاب مشيخة الأزهر، ستجد شيخ الأزهر مختلفا لأنه مثقف مستنير، عالم متفقه في الدين، تمسه نزعه صوفية راقية تنير وجدانه، درس في السوربون، وقدم رسالته عن ابن عربي.
في رأيك من من التيارين سينتصر في النهاية؟
- النموذج الحضاري المصري. أنا شديد الإيمان بأن النموذج الحضاري المصري لا يمكن تشويهه، أو مسخه، أو إحداث ردة جذرية له، بهذه الأصوات الغوغائية، لأنها أصوات جاهلة في حاجة إلي أن تتعلم، متعصبة في حاجة إلي أن تتسامح، منفصلة عن ضرورات العصر في حاجة إلي أن تتقيد بنظم العصر وضروراته.
لكن هذه الأصوات ليست وليدة الأمس، فهي منذ أكثر من ثلاثين عاما؟
- هذا صحيح، وساعد علي تفاقمها أننا لم نجر معها حوارا حقيقيا، ولم تترك لتنمو في النور، سأضرب مثلا بسيطا، لأن لي تجربة شخصية، كنت معيداً في كلية دار العلوم سنه 64 أقرأ كثيرا، كنت قد التهمت مكتبة التنوير المصرية كلها، ومكتبة الإخوان المسلمين نفسها، قرأت عبد القادر عودة، وحسن البنا، وسيد قطب، وكل كتابهم.
هل انتميت في فترة من الفترات لجماعة الإخوان؟
- لا. أنا أصلا أزهري فلم تكن تبهرني الكتابات الدينية، أنا معجون بها، وليست جديدة عليّ، كنت آخذ منها مسافة، مسافة العارف وليست مسافة المبهور، وأقرأ التراث الماركسي واليساري، ولا أنبهر به أيضا، آخذ منه المسافة نفسها، من الطريف أن نجيب الكيلاني كان صديقي وكان يزورني في المنزل وهو من يعتبرونه أفضل أديب اخواني، وكان لم "يتأخون" كثيرا، عبد الصبور شاهين أيضا كان صديقي، وفريدة النقاش وحسين عبد الرازق، كلهم كانوا أصدقائي.
فوجئت بسيد قطب آخر
كيف تجمع بين الأضداد؟
- المعرفة ليست فيها ضدية، كنت أعد نفسي لأكون أستاذا، ولكي أكون كذلك لابد أن أكون قاضيا محايدا وعارفا، ولابد أن أمضي فترة من عمري في الغرب لكي أتشبع بحضارته كما فعل طه حسين وتوفيق الحكيم والمثل العليا لدينا. المهم عام 64 صدر كتاب جديد اسمه "معالم علي الطريق" لسيد قطب اشتريت الكتاب وقرأته وفزعت، وكنت أجهز أوراقي لأسافر البعثة لأوروبا، ووجدته يقول إن الظلام يأتي من الغرب، والجاهلية والكفر كله في الغرب، وكلام صادم، ليس هو سيد قطب الذي أعرفه، ليس هو الذي كتب "مشاهد القيامة في القرآن" و"التصوير الفني في القرآن" و"ظلال القرآن" وكتابه الأساسي في النقد الأدبي الذي تعلمنا منه، وليس هو الذي قدم نجيب محفوظ، فوجئت بسيد قطب آخر، صادم جدا. المهم بحكم بعض العلاقات العائلية كنت أعرف الأستاذ محمد قطب الذي كان يعمل بوزارة التعليم العالي، قابلته وكان دمث الخلق، وطلبت منه تحديد موعد مع سيد قطب لأني قرأت كتابه وأريد أن أناقشه فيه، ومرت عدة أيام، وقابلته مرة أخري وسألته ماذا فعل في طلبي، ففوجئت أن رد سيد قطب كان "قل له يبعد عني وميهوبش ناحية البيت اللي أنا فيه لأنه لو فعل مستقبله هيضيع" وكان يقصد أنه مراقب وكل من يتصل به يصبح موضع شبهة، بعدها سافرت للبعثة وبعد عدة شهور سمعت نبأ إعدامه، لأنه يتآمر، وبكيت عليه كما لم أبك علي أحد، فكيف لشخص يخاف علي الشباب من الاقتراب منه أن يتآمر، كنت متيقنا أنه بريء، وفكرت في هذه الظاهرة وانتهيت إلي أن التحول الخطير الذي جري لسيد قطب كان مبعثه أمران أساسيان، فترة السوداوية التي قضاها في السجن، لأن السجن هو الذي أفرخ دودة التعصب، والقمع والاضطهاد، ولو أتيح لبواكير الفكر الاسلامي أن تعيش في النور وتتفاعل مع المجتمع، لم يكن لها أن تتحول إلي نبرات التكفير والهجرة والعدوانية والتعصب وإدارة الظهر للحياة، ولا أن تتفاقم وتصل إلي ما وصلت إليه الآن من نزعات القاعدة والجهاديين والتكفيريين، الأمر الثاني ومن خلال تتبعي لمساره وجدت انه في الفترة التي ذهب فيها إلي أمريكا قرأ بعض الفلاسفة الفاشيين الأمريكان، ممن يعدون من مؤسسي فكر المحافظين الجدد المعاصرين وتأثر بهم، التحول كان مرتبطا بمسار نفسي ومسار معرفي.
من هم هؤلاء الفلاسفة؟
- كنت قد توصلت لاسم واحد منهم لكن للأسف نسيته الآن. وعندما قدمت دراسات في السنوات الأخيرة عن المحافظين الجدد علي وجه التحديد تحددت كتابات هذا الفيلسوف وتحددت علاقة سيد قطب به، لأنه قرأه بعمق وتأثر به. ما أستخلصه من ذلك كله أن الثلاثين عاما التي أضاعها نظام مبارك من عمر مصر، الفترة التي أسقطها وأهدرها بغبائه، جمد الأوضاع فيها، وجعلنا نشعر باليأس وكأنها ليست بلدنا، وخلق عدم الانتماء، وأصبح حلم الشباب أن يهاجر، وفضل أن يموت في البحر غريقا في طريقه إلي الهجرة عن البقاء في بلده.
الإخوان سرقوا كتبنا
عندما تتحدث عن الوجه الحضاري للمصريين، عن أي مرحلة تتحدث بالضبط؟ أين نجد هذا الوجه؟
- هذا الوجه تجمد، تكلس وفقد تفاعله مع مقتضيات الحياة، كنت أقول لو هذه الجماعات الدينية لم تكن الوسيلة التي اتخذت لقمعها وحبسها واضطهادها طيلة هذه السنوات الثلاثين بهذه القسوة، وأنها لو كانت قد خرجت وشكلت أحزابا مثل بقية الأحزاب، كان خطابها سيصبح أكثر اعتدالا وواقعية، وأشد استنارة من الخطاب الذي نجده اليوم. وهذا يتضح من ملاحظة الفرقتين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة السلفيين، الأولي كانت تحاول أن تظهر علي وجه الأرض و"تعافر" لتدخل الانتخابات وتحصل علي مقاعد، ثم تظفر بشيء من التعاطف الاجتماعي عن طريق المستوصفات والخدمات الاجتماعية، وفي الجامعة (كان الإخوان المسلمين يسرقون كتبنا ويعملوا منها مذكرات ويعطونها للطلاب الفقراء بالمجان) كل هذا خلق لهم شعبية، وجعلهم يعيشون نسبيا في نصف النور، عندما تمتحن خطاب من عاشوا في الضوء الشاحب هذا ستجده أكثر تحضرا، أكثر لباقة، أكثر مراوغة، أكثر دهاء، من الخطاب الفج، الصادم، المباشر، المتخلف بوضوح، الذي يتبناه بعض السلفيين.
وحتي هؤلاء السلفيون أنفسهم عندما خرجوا من كهوفهم اثر ثورة 25 يناير، وفوجئنا بمنظر لحاهم وجلابيبهم في المظاهرات والوقفات، خاصة ما أطلق عليها جمعة قندهار الشهيرة، كانت مفاجئة لكل المصريين، كأن أصحاب الكهف خرجوا إلينا، كانت خطاباتهم في بداية هذا الظهور شديدة العنجهية والجهل والقسوة، الآن بدأت أبصارهم يعشوها قدر من النور، وجفونهم تهتز قبل أن يكفروا من أمامهم، وأصابعهم أيضا قبل أن تحكم علي الثقافة كما فعلت من قبل مع نجيب محفوظ وطه حسين.
لكن بعضهم أعلن عن تكوين مجموعات "التراس" لفرض أفكارهم التي قد تصل للقتل؟
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.
إذا كان الأمر علي هذه الشاكلة فأين هو الوجه الحضاري الذي تصر عليه؟
- الوجه الحضاري هو أن هذا الالتزام الشكلي لم يؤثر في سلوك المصريات، ما أعتقده أن طبيعة الشخصية قابلة للتحول لتفادي الصدمات، الشخصية المصرية مرنة جدا، تحتفظ مثلا بوعيها بالفن وعشقها للجمال، والموسيقي، المرونة تظهر أيضا حتي في هذا الشكل، انظر إلي ملابس المحجبات الآن فاتن جدا، تحول من مظهر لإعلان التدين المرائي إلي شكل جمالي.
إلي أين يجرنا هذا كله في اعتقادك؟
- كل هذه الظواهر ستنحسر وسنكتشف أن جوهر الدين لا يتعارض إطلاقا مع الجوهر الحضاري، في الفن والعلم، وأي تعارض يفتعله بعض المتدينين لن يدوم فهم لا يستطيعون أن يلغوا التفكير العلمي لدي الشعب المصري ولا العربي، لكن الهجوم يتركز علي الفن، ولن يلبث الفن أن يغزو حياتهم، وسينتصر في نهاية الأمر. وما نراهن عليه الآن أن تزداد النزعة الإنسانية لدي المحصورين والمنغلقين داخل أسوار التعصب الديني، فكلما زادت هذه النزعة الإنسانية قل تعصبهم وأصبح توافقهم مع المجتمع أكثر سلاسة ومنطقية. النقطة الأخيرة التي أراهن عليها هي طبيعة الشعب المصري التي ستحمينا من أن تصل التوترات إلي المرحلة الدموية.
قبل أن ننتقل إلي نقطة أخري يجب أن نوضح عن اي حجاب وعن اي مرأة نتحدث، المرأة الريفية مثلا لم تتغير، ولا السعودية ولا الإخوان ولا أي تيار فرض علي هذه المرأة شيئا..
- يمكن إن نقول أنه فرض علي المرأة المتعلمة المدنية، وعلي أي الأحوال إذا أشبع هذا حس النساء الديني اليوم فسوف يراجعن أنفسهن غدا.
قصة جائزة القذافي
تحدثت عن علاقة المثقف بالسلطة، هناك نموذج واضح وهو جائزة القذافي، هذه الجائزة عليها مجموعة من علامات الاستفهام، موقف "خوان جوتسيلو" كان واضحا في هذه المسألة، وأصدر وقتها بيانا يوضح موقفه..
- سأحكي لكم قصة هذه الجائزة لأني طرف أساسي فيها، بدأت قصة هذه الجائزة في الإسكندرية، كنا في مؤتمر حضره الصديق إبراهيم الكوني، وكنا نتحدث عما تفعله النظم المختلفة في الدول العربية لتشجيع الثقافة، فقلت لإبراهيم تربطك صلة بالسلطة وبالعقيد القذافي، وطلبت منه أمرين الأول أن يقترب من الواقع الليبي التاريخي في كتاباته قلت إن العالم عرف القاهرة من نجيب محفوظ، فأنت صور العالم الليبي، وفي أول رواية من هذا الطابع أهداها إلي لأني من أرشده إلي هذا الطريق، الأمر الثاني قلت إن ليبيا تقدم الملايين في افريقيا وفي أماكن أخري، لماذا لا تقدم شيئا للثقافة، واقترحت جائزة كبيرة للثقافة، واقتنع الكوني ووعدني بطرح الأمر علي العقيد، نعرف ديكتاتورية هذه الأنظمة وظلمها، لكن الأجيال التي تعيش كان من حقها أن تعرف شيئا عن الثقافة، إبراهيم قدم مذكرة مع وزير الثقافة لإنشاء جائزة باسم "جائزة طرابلس للثقافة العربية" هذا هو الاسم الاساسي، والوزير مثل كل الوزراء استبدل اسم طرابلس بالقذافي!!
ثم دعيت للاجتماع الأول ودعا أيضا مجموعة من الأساتذة من أوروبا وأمريكا، ومن العرب كنت أنا وسعيد الغانمي، أول قضية أثيرت كانت الاسم قلنا إننا لم نقل هذا الاسم ولا نوافق عليه، الكوني قال انه سيقابل العقيد ويقنعه بتغيير الاسم، ناقشنا معايير الجائزة، وتداولنا بعض الأسماء، واقترحت اسم جوتسيلو، وهو رجل متمرد يعيش في المغرب ويعطي ثروته للشباب المغربي، وهو متعاطف مع الثقافة العربية، وبدأت المراسلات معه باسم جائزة طرابلس، وافق في البداية، ثم طلب مهلة للتفكير، لكن بعدها فوجئنا به ينشر مقالا في "الباييس" يقول فيه إنه يرفض اي جائزة عربية ولم يبلغ أبدا بأن اسمها القذافي لأننا لم نكن قد قبلنا الاسم من الأساس، وقتها حدث غزو إسرائيل لغزة، وظهر التخاذل الشديد للحكومات العربية، فقال إنه رفض الجائزة لأن الحكومات العربية ظالمة ومتخاذلة، وفي الوقت نفسه كان مرشحا لنوبل، فوازن أموره ورفض الجائزة حتي يظل ترشيح نوبل مستمرا، في هذه الأثناء ذهب الكوني للعقيد القذافي، وهو موجود وسآتي لكم به ليقول هذه الشهادة، دخل علي القذافي ورغم جنونه إلا انه كان عنده شيء من الذكاء فقال له "أنت جاي عشان تغيروا اسم الجائزة، وهو أنا طلبت أن تكون باسمي روحوا غيروها" كلمني إبراهيم وقال إن المسألة حلت، وطلب عقد الاجتماع الثاني وعقدناه في شرم الشيخ، في الاجتماع روي إبراهيم تفاصيل لقائه مع القذافي وقال انه أقنعه بتغيير اسم الجائزة، ففوجئنا بوزير الثقافة يقول "نعم!! فين الأمر المكتوب بما
تقول" ثم فسر "أنت بعيد عن السلطة يا أستاذ إبراهيم..روحوا اعملوها يعني لو كنتم تقدروا"! الوزير يعرف اللعبة، ويعرف انه تحت طائلة العقاب، ورد إبراهيم بأنه سيأتي بالأمر المكتوب، بعدها رفض جوتسيلو الجائزة بطريقة استعراضية، لكن هذا حقه، وتقديري له لم يتغير، بل بالعكس أرسلت له رسالة قلت فيها إن كل المثقفين العرب المخلصين معك ضد الأنظمة الديكتاتورية، لكن نحن نحاول تحسين أوضاع الثقافة العربية من الداخل ومكافأة المبدعين والمفكرين المتعاطفين مع القضايا المصيرية ومع الشعوب العربية، وانتهي الأمر عند هذا الحد، ثم حصل اتصال مع د.جابر عصفور وقبل الجائزة.
والاسم هل تم تغييره؟
- لم يتم تغيير الاسم، ونتيجة لهذا، لم نحضر أنا أو إبراهيم الكوني حفل تسليم الجائزة.
تحسين الثقافة
هل كانت مهمتكم تحسين الشروط طوال الوقت؟
- لا. تحسين وضع الثقافة، منطقي ومن حقك أن ترفضه، إننا نعمل في ظل نظم معينه أنا لا أنافق هذه النظم، لن تجد كلمة واحدة نافقت بها النظام الذي كنت أعيش تحته، مبارك أو زوجته، بالعكس عندما منحت جامعة القاهرة الدكتوراه لزوجته كتبت نصف صفحة في الشروق قلت فيها انه عار علي جامعة القاهرة أن تمنح الدكتوراه لسوزان مبارك، وكلمني اصدقائي يحذروني وقلت "هيعمل ايه يعني هيسجني؟ يسجني مش مشكلة" لكن كان هذا رأيي أنه نفاق رخيص وابتذال من رئيس الجامعة، وكان موقفي ومازال ما أستطيع أن افعله لخدمة الجامعة التي اعمل فيها أو الثقافة التي انتمي إليها في ظل هذا النظام افعله، ولو مؤمن بمبادئ الحرية والديمقراطية تكون هي الغالبة علي خطابك، كل الأعمال الأدبية التي اعمل عليها أحاول أن ابرز قيمة الحرية أو الديمقراطية فيها، لم أكن كعلاء الأسواني الذي يختم كل مقالاته بالديمقراطية هي الحل، لكن إذا قرأت اي مقال لي ستجد هجوما شديدا علي الديكتاتورية كان لي مقال اسمه "اعشق هذه الحسناء" وهي الديمقراطية، عنوان كتابي عن الشعر كان "جماليات الحرية في الشعر" فأنا كمثقف أتعاون مع الدولة لكن دون ترخص أو نفاق، أنا كنت مستشارا ثقافيا وأنا شاب عندي 45 سنة كل زملائي من المستشارين الثقافيين رجعوا وأصبحوا وزراء عبد الأحد جمال الدين، فاروق حسني كان ملحقا وكنت أعلي منه، واختاروه وزيرا وأنا لا، لأنه ينافق وأنا لا، هو يعمل مع أجهزة المخابرات وأنا لا يمكن أن اعمل مع هذه الأجهزة، مع محاولاتهم الشديدة لتجنيدي والتي وصلت لتهديد زوجتي.
هل دور المثقف المصري العمل داخل النظام من أجل..
- لا لا ليس داخل النظام، داخل الوطن.
المقصود هو العمل داخل النظام لتغييره من الداخل، هل نجحتم في هذا؟
- أنا أعتقد لو أن هناك منظومة من القيم تشحن بها الأجيال الجديدة، لعشق الحرية والديمقراطية، ولو تقدم الناشطون السياسيون للصف الأول، ولو ساعد المفكرون في مواقعهم علي هذا الشحن، فسيحدث التغيير. فالثورة في الأساس فعل ثقافي، الثورة عبارة عن نشدان أفق للتغيير، ولا يوجد مثقف حقيقي لم يكن يطلب التغيير ويطالب به "سيبك من المنافقين والمذلولين واللي لسانهم مقطوع" الشباب الذي ظهر في الميدان لم يأت من المريخ، هؤلاء درسوا في مدارسنا وقرأوا كتبنا لست أتحدث عن شخصي أنا أضعفهم واقلهم، لكني لا أستطيع أن أتهم الثقافة.
حزب الجبهة
لكن جاءك الدور لممارسة الفعل الثقافي، جاء بين يديك في المجلس الاستشاري، فماذا أنتم فاعلون؟
- أنا لست مشتغلا بالسياسة بشكل مباشر، ولا ناشط سياسيا، لكن من كثرة إيماني بضرورة التغيير، اجتمعت مع مجموعة من قادة الرأي والمثقفين في منزل يحيي الجمل لكي نؤسس حزبا معارضا للسلطة وهو "حزب الجبهة" ودعينا كل المثقفين في هذا الحزب، علي السلمي، وسكينة فؤاد، وأسامة الغزالي حرب، البداية كانت من مكتبة الإسكندرية التي كانت أول فضاء ثقافي علمي انساني مفتوح لحرية الرأي في مصر، بفضل إسماعيل سراج الدين المتهم الآن بأنه فلول وأنه وانه مغضوب عليه، أنا أظن أن الحياة الثقافية المصرية ظلمته ظلما فادحا، المهم أننا بدأنا أول محاولة للتغيير في مكتبة الإسكندرية، في عام 2005-2006 عند عقد أول مؤتمر للإصلاح العربي، وكنت مستشار المكتبة وقتها، لكننا خططنا بأن يكون الإصلاح مصريا في البداية، لأننا كلما قلنا الإصلاح العربي، لا "توجع" الرئيس وزبانيته، بدأنا بوثائق الإصلاح، وكتبت خطوطا عريضة لوثيقة الإصلاح، وقرأها سراج الدين وقال إنني متناول جوانب سياسية، واجتماعية، واقتصادية وثقافية، واقترح دعوة مجموعة من الشخصيات المتخصصة في هذه المجالات لتكتب رؤيتها ثم أضم أنا كل هذه الرؤي في وثيقة واحدة، وفعلا تم دعوة أسامة الغزالي حرب لكتابة الجزء السياسي ولم أكن أعرفه قبل ذلك وإذا به يكتب جزءا سياسيا رائعا، نشيدا رائعا للدفاع عن الديمقراطية، وتم دعوة السيد يسين لكتابة الجزء الاجتماعي وكتب عن الإصلاح الاجتماعي في التعليم والابنية الاجتماعية وهو
من أعظم عقليات مصر، وتم دعوة سمير رضوان لكتابة الجزء الاقتصادي، وكان ضعيفا إلي حد ما، لأنه ليس مؤمنا بالعدالة الاجتماعية، وتفكيره مع المنظمات الدولية، وعمل في صندوق النقد، وتفكيره رأس مالي، وأنا كتبت الجزء الثقافي، المهم أنني دمجت هذه الوثائق في وثيقة الإسكندرية، وتصدي لها معي د.جابر عصفور، وخلصنا إلي وثيقة رائعة، وقبل عقد المؤتمر فوجئت بالدكتور إسماعيل يقول إن هناك مشكلة، قلت ماهي؟ وقال الرئيس مبارك يريد أن يحضر المؤتمر! قلت كيف إذا كان المؤتمر ضده بالأساس، وعرفنا بعدها أن هناك ضغوطا من أمريكا بشأن مسألة الإصلاح الديمقراطي، وهو يريد أن يظهر بمظهر المتبني للإصلاح، فخطرت في ذهني فكرة خبيثة جدا، قلت فليأت الرئيس في الصباح ويلقي كلمته ثم نعقد المؤتمر في المساء، لأننا أعلنا أننا لا نريد مسئولين رسميين في المؤتمر، وأبلغوا الرئاسة وفوجئنا بقبولهم للشرط، بل الأكثر أن الرئاسة طلبت منا أن نضع الخطوط العريضة لخطاب الرئيس! وبالفعل قمنا بهذا وضعنا بعض الخطوط وأدخلت فعلا ضمن خطوط أخري في خطاب مبارك وكانت تلك هي طريقتهم في "خبز" خطب مبارك، المهم أنه تحدث فعلا في المؤتمر وألقي خطابا مدهشا تقدميا جدا، وواعيا جدا، وعقب المؤتمر طلبوا ترجمة الوثيقة للانجليزية، فترجمها إسماعيل للانجليزية والفرنسية، وأخذها مبارك وعلي واشنطون، وغطي بها موقفه مع بوش، وفي القمة العربية في تونس، بعدها طرحت أفكارا حول تعديل الدستور وإلغاء نظام الاستفتاء وتحويله إلي انتخابات رئاسية، قلنا أول الغيث، وأملنا أملا عظيما، والكلمة الايجابية الوحيدة التي قلتها عن مبارك كانت بمناسبة هذا القرار، لأنه سيكون هناك انتخابات "واحنا كنا نطول" اعتقدت أننا علي أعتاب مرحلة جديدة من التطور الحقيقي يستجيب فيها حكام مصر لطموحات الناس، بعدها خرجت تعديلات المادة 76 كما تعرفون "زي الزفت، متفصلة علي جمال مبارك" عندما خرجت هذه المادة ألقي حجر اليأس في قلبي أنا شخصيا، وبدأنا نجتمع لتكوين الأحزاب المعارضة، لكي أنتقل من الحياة الثقافية والأدبية لجبهة النضال السياسي في الأحزاب.
وبرنامج حزب الجبهة من أوضح البرامج التي تنشد التغيير والتحول الديمقراطي، وضرورة تداول السلطة، المهم أن هذه الكلمات كلفت مكتبة الإسكندرية نصف ميزانيتها، ففي العام التالي "قصوا الميزانية للنصف" وتلقي إسماعيل سراج الدين مكالمة غاضبة من زكريا عزمي قال له فيها "ايه يادكتور إسماعيل انت عاوز تعمل المكتبة هايد بارك كل واحد يجي يشتم في أسياده" بعدها خفض الميزانية التي تخصص لمثل تلك الاجتماعات.
لكن هناك ميزانية دولية للمكتبة؟
- جزء من الميزانية دولي والباقي مصري، الجزء المصري تم تخفيضه للنصف لتحجيم الأنشطة، واتصل بي إسماعيل سراج الدين، وقال انه لن يستطيع أن يدفع مرتبي كمستشار، وقلت انني اقبل العمل دون أجر، لكن لم تعد هناك ميزانية لعمل الأنشطة التي كنا ننظمها.
ألا نستنتج من ذلك أن النظام كان يستخدم المثقف طوال الوقت لصالحه، الوثيقة مثلها مثل أشياء كثيرة تبدأ وتنتهي ولا ينفذ منها شيء..
- وأنت في قلب الحدث يكون لديك أمل. لديك أمل للتغيير وتدفع بقدر الإمكان في هذا الطريق.
أنا مع الفكر وليس المناصب
نعود للنقطة التي بدأنا منها المجلس الاستشاري؟
- كان كل نشاطي السياسي محصورا في المشاركة في تشكيل حزب الجبهة، عرض علي أن أكون نائب رئيس أو أمينا عاما، وكان ردي أنني أستاذ في الجامعة ولا علاقة لي بالمناصب السياسية، أنا مع الفكر، لكن لا استطيع أن أخطب في دعاية أو أدخل انتخابات، فوجئت باستدعائي للحضور للمجلس العسكري، وحضرت الجلسات التمهيدية للمجلس الاستشاري، وكنا وقتها عقب المأساة الدامية في شارع محمد محمود، حيث ظهر التخبط في قرارات المجلس العسكري، واقترح عليه السياسيون أن يشكل مجلسا استشاريا يعود إليه في قراراته السياسية، وتم تشكيل المجلس، وفي البداية حضره 40 شخصا منهم قيادات الحرية والعدالة وكان من بينهم د.محمد مرسي في التشكيل الأول، بالإضافة لرؤساء الأحزاب والنقابات، ومن المثقفين كان محمد سلماوي وأنا، ثم تم ضم سكينة فؤاد، بعد الاجتماع التمهيدي وقبل صدور القرار الجمهوري بتشكيل المجلس، خرج اللواء الملا وقال إن مهمة المجلس العسكري أن يضمن قيام دولة مدنية، وأن الجيش لن يسمح للتيارات الدينية بتولي السلطة، فاشتعل غضب الإخوان وقاطعوا المجلس، وكنا قد عقدنا اجتماعا وانتخبنا منصور حسن رئيسا ووكيلين للمجلس، بعض الناس طلبوا ترشيحي لكني رفضت، لكني بعدها تورطت فيما هو "العن" من الترشيح، فكل بيانات المجلس كان علي أنا أن اكتبها، أن أبلور الأفكار وأصيغ البيانات، "وأحيانا كنت أذهب للاجتماع وفي جيبي البيان، ما انا اعرف المطلوب"!
ماهي استراتيجية عملك في المجلس؟
- كانت تعتمد علي ثلاثة محاور، المحور الأساسي كان الحيلولة دون وقوع أي موقف يؤدي إلي احتكاك الجيش بالمتظاهرين، ولم يحدث فعلا بعد ذلك اي احتكاك سوي مرتين ولم يكن للجيش فيها اي ذنب، كل الناس تدين العسكر وتنادي بسقوطهم، "لكن والله انا اللي عارف اللي حصل".
الأمر الثاني كان ضمان تسليم السلطة في المواعيد المتفق عليها في المجلس لأن الإعلان الدستوري كان ينص علي تسليم السلطة في 2013 وهو ما رفضناه واتفقنا علي جدول زمني ينتهي في 30 يونيو، وهو الموعد المقدس الذي اكتبه في كل بيان، لدرجة أن أعضاء المجلس العسكري انفعلوا في إحدي المرات وقالوا "هي صورة مااحنا قلنا الكلام دا عشرين مرة قبل كده" لكني كنت أصر، لأن أكبر هاجس بالنسبة لي أنا شخصيا الاستمرار تحت ظل الحكم العسكري، هذا هم شخصي بالنسبة لي فنحن تحت هذا الحكم من 52 وحتي الآن، حتي اني قرأت ما حدث في أمريكا اللاتينية وكيف تخلصت من الحكم العسكري، قرأت في التجربة الأرجنتينية انه بعد أن سيطر العسكر علي البلد واستبدوا بها، توصل الأرجنتينيون إلي فكرة في منتهي الذكاء تمنيت أن تحدث في مصر أيام مبارك، وهي أن اتفق الاقتصاديون فيما بينهم علي عدم تقديم اي نصيحة للعسكر لإنقاذ البلد اقتصاديا، فانهارت وأفلست، وسلمها العسكر بعد أن فشلوا، لكن للأسف في مصر لو امتنع واحد فهناك عشرات غيره علي استعداد لتقديم النصائح المجانية.
أما الأمر الثالث والجوهري فكان ضمان تشكيل لجنة دستورية لعمل دستور مدني يحفظ مستقبل مصر وهذا للأسف ما فشلنا فيه.
العسكري و الإخوان
من خلال احتكاكك المباشر بالمجلس العسكري، هل كانت لديه ميول لتسليم السلطة للإخوان المسلمين؟
- لا. علي الإطلاق، هم أرادوا تسليم السلطة للحاكم المدني المنتخب.
ما الذي حدث إذا؟ وما كان دوركم كمجلس استشاري؟
- في كل اجتماع كنا نلح علي ضرورة وضع معايير لتشكيل الجمعية التأسيسية لعمل دستور يضمن مدنية الدولة، فيقول أعضاء المجلس أنهم علي استعداد لعمل هذا، لكنهم يطلبون توافق القوي السياسية، كل القوي السياسية بما فيهم السلفيون وافقوا ولم يرفض إلا الإخوان، فيرفض أعضاء المجلس عمل شيء، لأن الإخوان هم من يملكون مفتاح المظاهرات والاحتكاك، والجيش كان يريد أن يسلم باي قدر من هذا الاحتكاك.
تقصد أن الإخوان هم الطرف الثالث؟
- لا أنا لم أقل هذا. وهذا بالمناسبة رأي المستشارة تهاني الجبالي، لكن ابحثوا انتم عن الطرف الثالث، ما استطيع قوله انني في إحدي المرات قلت للمشير إن الرأي العام يقول إنكم عقدتم صفقة مع الإخوان لتسلموهم السلطة، فضرب المكتب بيده وقال أنت تصدق هذا؟ نحن نعقد صفقة مع الإخوان؟! وهل كان الوضع سيكون هكذا لو فعلا عقدنا صفقة معهم، وقلت إن الناس هي التي تقول هذا، وفسرت له الأمر، فأول ما كون الجيش مجموعة لوضع الإعلان الدستوري تركتم كل أساتذة القانون في مصر ولم تجدوا إلا طارق البشري وصبحي صالح فقال "انتو مش عايزين تنسوا الحكاية دي" وقلت أنها لا تنسي، لأننا عانينا ومازلنا مما فعلوه.
هل شعرت أن اختيارهم لطارق البشري كان مقصودا؟
- لا كان حسن نية، وقعوا تحت تأثير بعض الناصحين والمستشارين، وبنوا نصيحتهم علي أن القوي المعارضة الأساسية في الميدان إخوان فلكي يرضوهم اعتمدوا علي شخص معتدل، وطارق البشري ليس إخوانيا وهو صديقي وتناقشت معه أكثر من مرة، لكنه انقلب إلي متعاطف مع الفكرة الدينية، لكن طول عمره ليبرالي ومستنير جدا، لكن "هببها" وهو المسئول عما حدث.
ماذا عن تقارير تقصي الحقائق التي كانت تصلكم؟
- لم يكن يصلنا شيء، كنا نطالب بسرعة الانتهاء من التحقيقات وتقديم المدانين عسكريين أو مدنيين للمحاكمة في كل الأحداث التي حدثت، وكان يرد علينا بأننا لا نستطيع التدخل في التحقيقات القضائية.
حقيقة مذبحة بورسعيد..مجهولة
يقال إن هناك تقارير لم تذهب للقضاء نفسه كما في أزمة بورسعيد مثلا..
- أزمة بورسعيد ناقشناها طويلا، وكانت معنا سكينة فؤاد، وهي من بورسعيد، وكانت متحمسة جدا للدفاع عن أهل بورسعيد، وكانت تصر علي أن أتوبيسات دخلت المدينة وان من قام بهذه الجريمة ليسوا هم أهل بورسعيد، لكن لم يكن هناك اي دليل علي ذلك، فمن الواضح وضوح الشمس أن الجيش لم يتدخل، وأن الشرطة كانت سلبية، لكن يظل السؤال هل كان دور الشرطة مجرد دور سلبي أم كان لهم دخل في الموضوع، حتي الآن لم تتضح الحقائق، لكن من المؤكد أن المجلس العسكري لم يكن له علاقة بما حدث في بورسعيد.
دعنا نتحدث وأنت مفكر كبير عن ثنائية المفكر والحاكم عبر التاريخ، حتي في العصر الحديث كان هيكل مع عبد الناصر، وأنيس منصور مع السادات، مبارك كان كل من يقرب منه يهرب بعد فترة، وكل حكام العالم عبر التاريخ، من يفيد من؟ وما دور المثقف بجوار الحاكم الآن؟
- أظن أن الوضع تغير في العصور الديمقراطية، فحل محل المفكر الوحيد الذي يكبح جماح الحاكم، ما يمكن أن نطلق عليه العقل الجمعي والرأي العام، وأيضا المؤسسات الديمقراطية المتخصصة صاحبة القرار، لكن علي الرغم من هذين الجناحين يظل الحاكم بحاجة إلي الاستعانة برأي المتخصصين في الجوانب الاستراتيجية، والاقتصادية والاجتماعية، لابد أن يكون له فريق عمل يضع الأولويات، ويدبر الإجراءات التي تتجاوز ما تشير به المؤسسات البطيئة في قراراتها. وأنا أظن أن دور المثقف الحقيقي في هذا الأمر يتلخص في أمرين، الأول هو أن يكف عن النفاق لأن
أسوأ ما يدين مثقفا هو أن ينافق صاحب سلطة، لأن السلطة مدعاة للطغيان، وصاحب السلطة بحاجة إلي من يرد طغيانه لا من يمد هذا الطغيان، المسألة الثانية كيف يمكن تفعيل الوعي النقدي لكي يتم بهذا الوعي ترشيد السلطة.
لكن في الفترة التي نعيشها كثيرا ما نتجاوز النقد إلي التجريح، كثيرا ما نتجاوز هامش الحرية إلي الفوضي، نتجاوز كل شيء إلي ما يقلبه إلي ضده، لكن أظن أن هذه مرحلة مؤقتة وأن حركة السفينة بعد هذه الهزات العنيفة لابد أن تتوازن، وان الدوار الثوري الذي أصاب مصر في الشهور الماضية لابد أن يركن إلي قدر من النضج والاستقرار ورؤية الطريق جيدا، طريقنا إلي المستقبل، أولا تعميق التحول الديمقراطي، وتحقيق التنمية الاقتصادية العادلة ثانيا، ودخول عصر المعرفة باستخدام العقول المصرية في الداخل والخارج ثالثا مع الحفاظ علي أعلي سقف للحرية، مع الكف عن محاولة صبغ الدولة بحناء التدين الظاهري الكاذب، هذا يصلح للعرس المؤقت مع تولي الإسلاميين للسلطة، لكن سرعان ما سنغسل أيدينا من هذه الحناء، لأن الشعب المصري بطبيعته لا يحتاج من يعلمه الدين، ولا من ينفخ في قيمه الروحية لأنها متضخمة، لدينا الغدة الدينية متضخمة وتكاد تلغي غيرها من الغدد، نريد أن نعيد التوازن بعلاج هذه الغدة الدينية لكي تنمو إلي جانبها الغدد العلمية والفنية، لأن التوازن لا يحدث إلا بهذه الغدد الثلاث:الدين، العلم، الفن.
سكينة فؤاد وفاروق جويده كانا لفترة طويلة في جانب المعارضة الآن هما إلي جوار السلطة..
- لعلهما يمكّنا من ذلك. فما فائدة تعييني في المجلس الرئاسي ثم لا تسمع نصيحتي.
ضحيت في المجلس الاستشاري
هل أنت نادم علي المشاركة في المجلس الاستشاري؟
- إطلاقا. لأني لم استفد شخصيا منه في شيء علي الإطلاق، كان كله تضحية وجهدا موصود ليل نهار لتحقيق الأهداف التي تحدثت عنها وهي أهداف وطنية لا أعتقد أنه يمكن الخلاف عليها.
الإخوان يسعون الآن لتطبيق فكرة التمكين التي تحدث عنها حسن البنا، هل تري أن هذه الفكرة يمكن تحقيقها؟
- ستذوب في تيار النهر المصري العريض، رغم كل ما يفعلونه، لن يستطيع أحد إحداث تغيير جوهري في مجري الحياة الحضارية للمصريين.
وثيقة الأزهر التي شاركت في صياغتها، هل كانت تمهيدا لفكرة الدولة الدينية؟
- علي العكس تماما، سأحكي لكم قصة وثائق الأزهر لأنها ليست وثيقة واحدة، حادثني الأستاذ جمال الغيطاني يوما وقال لي إن شيخ الأزهر طلب منه دعوة مجموعة من المثقفين للالتقاء به للتدارس في الوضع المصري، كان هذا في أبريل من العام الماضي، واتفقنا علي الأسماء واجتمعنا أول اجتماع، وأنا في الطريق إلي هذا الاجتماع قلت في نفسي ماذا يمكن أن نفعل؟ كنت مستحضرا لما حدث لوثيقة مكتبة الإسكندرية التي شاركت فيها، وقلت لنفسي يبدو من صعود نبرات التيارات الدينية أننا بالضرورة مقبلون عند إجراء أول انتخابات علي أغلبية دينية تكسبها التيارات الدينية، ما هو الخطر من كسب هذه التيارات للانتخابات، الخطر أنها ستفسر لنا الدين تفسيرا متخلفا وهابيا مثل الذين يمولونهم، وماذا يمكن أن تفعل مؤسسة مثل الأزهر بتعاونها مع المثقفين؟ تدفع لتبني تفسير حضاري مستنير للمبادئ الأساسية في الدين الاسلامي، هذا ما أضمرته في نفسي، وهو ما قلته في الاجتماع أننا مقبلون علي مرحلة سوف تستخدم فيها مبادئ الدين في الخطاب السياسي كثيرا، والأفضل أن نحدد هذه المبادئ في وثيقة تكون هي المصباح الهادي والتفسير الصحيح الذي يقطع الطريق علي التفسيرات المتخلفة والمتعصبة. فقالوا أنت صاحب الفكرة فلتكتبها وعندي المسودات الأولي للوثائق الثلاث والرابعة معي الآن، وستكون مفاجأة لأنها عن حقوق المرأة.
نريد أن نعرف ملامحها؟
- سيغضب مني الشيخ، ولا يجب أن أزايد علي الرجل الذي خدمنا خدمة عظيمة، وهو رجل مستنير، عف اليد واللسان، لا يرتشي. المهم وضعنا الوثيقة، وتدارستها هيئة كبار العلماء، وحاولوا وضع وثيقة مضادة لها فردعهم الشيخ، واجتمعنا عدة اجتماعات وأضافوا أفكارا، وكتبت الصيغة النهائية. ولم نختلف إلا علي كلمة واحدة في البند الأول وهي كلمة مدنية، أنا تمسكت بالكلمة لأنها محورية، وقالوا إنه لا يوجد في العناصر الدستورية التقليدية كلمة مدنية، ولم نتفق، فوجه إلي الشيخ سؤالا محددا، قال:كيف تشرح طبيعة الدولة المدنية؟ وقلت إنها دولة ديمقراطية دستورية حديثة، فقال حلت المسألة نحذف كلمة مدنية ونضع هذه الأوصاف الثلاثة.
لكن الوثيقة تضم كلمة وطنية أيضا؟
- لمقاومة الفكرة الأممية. دولة الخلافة، كل شيء محسوب بدقة، وتمت مناقشته بدقة، حرف حرف. هذه الوثيقة أجمعت عليها كل القوي لحسن الحظ، ووقعوا عليها وأصبحت هي المرجعية، وهي الموضوعة أصلا لمقاومة التفسير الخاطئ للدين من قبل التيارات المتطرفة.
وفكرة الأزهر كمرجعية في الدستور؟
- مرفوضة.
نريد أن نتحدث عن وثيقة حرية الإبداع، خاصة مع ما يقال عن تدخلات د.محمد عمارة والتغييرات التي أدخلها عليها؟
- رفضنا كل تغييراته، حاول أن يغير بعنف، لكن لم نستجب لهذه التغييرات، في الوثيقة الموجودة اختلفنا في حرية الإبداع علي نقطة واحدة، أنا نصيت علي "عدم جرح المشاعر الدينية" وقالوا لمن نحتكم للحكم علي الجارح للمشاعر الدينية، وقلت نحتكم لجهتين جمهور المتلقين والنقاد المتخصصين، وما يحدث الآن هو جرح لمشاعر الناس، هذه فتن، وليس من المناسب النفخ فيها، المهم أنهم قالوا لا نحتكم للنقاد المتخصصين، وقلنا ونحن لا نحتكم لرجال الدين، فهناك تقاليد ترسخت أن الفن له أخلاقياته، وأنا نصيت في وثيقة الحريات وقلت "طبقا لأخلاقيات الفن" لأني مؤمن بهذا الشعر له أخلاقياته، والرسم له أخلاقياته، يعني العري في الرسم ليس مضادا للأخلاق، لأن له جمالياته الخاصة به.
إهدار دمي..فخر لي
أنت واحد من 150 مهدري الدم، ماذا تقول لهؤلاء؟
- أنا أفخر بذلك، هؤلاء كما سماهم وحيد حامد هم طيور الظلام التي تشوه الإسلام، ورؤيتهم نموذج للغباء الذي يتشح بالدين، كل من يتصل بالفكر العربي الاسلامي ويشرب من منابعه الأصيلة يكتشف انه ثورة للحرية، ثورة للإبداع، لا يتعارض مع جوهر العلوم بل يدعو إليها، لا يتعارض مع منظومة القيم الفنية والجمالية بل يعززها ويعلي من شأنها، وما دمت حريصا وغيري من المثقفين علي هذه الروح المتوهجة للإبداع والخلق الفني، للثقة بالذات وبالمجتمع، للسعي الحضاري نحو المستقبل، لتمكين الإنسان في الأرض حتي يصنع حضارته، فلا يعنيني علي الإطلاق أي حكم من جهلة أغبياء متعصبين مثل الدببة التي تقتل أصحابها وهي تظن أنها تحسن صنعا.
دعنا نخوض أكثر في الشأن الثقافي. المجلس الأعلي للثقافة متي تنتهي الإشكاليات المتعلقة بتشكيلة وتحديد نظم واضحة للجوائز فيه؟
- أنا حضرت اجتماعات المجلس لمدة عشر سنوات وفي كل عام أقترح تعديلات ولا يؤخذ بها!
ومتي ينتهي الشك في جوائز المجلس؟
- علاجها بسيط جدا ويتلخص في ثلاث نقاط، الأولي هي إعادة النظر في جهات الترشيح، لكي تشمل بعض الجهات المحرومة من الترشيح، فحتي الآن الأدباء الذين لا ينتمون إلي نقابات أو تجمعات أو "شلل" لا يجدون من يحمل صوتهم ويرشحهم، وهذا عيب يجب أن نبحث له عن حل، كأن نجيز أن يرشح المبدع نفسه بتذكية من مبدعين كبار مثلا، النقطة الثانية أنه ينبغي إبعاد الموظفين تماما من عملية التصويت، لأنهم ليسو خبراء، كما يجب أن يقتصر التصويت في كل شعبة علي الخبراء والمتخصصين في هذه الشعبة، فالوضع الحالي يجعل المتخصص في الآداب يفتي في العلوم الاجتماعية وهو لا يعرف، النقطة الثالثة وليس لها حل أن من لا يحصل علي الجائزة سيظل يطعن في مصداقيتها.
الناقد مثل القاضي
هناك من يقول إن النقاد تحولوا إلي تجار شنطة؟
- أنا لا أملك حق اتهام أحد، لكن الحياة الأدبية هي التي تصفي في نهاية الأمر، ومن يثبت أنه خالف ضميره، أو اخطأ الظن أو التقدير سوف يسجل ذلك في تاريخه، وبالتأكيد يفقد رصيده ومصداقيته لدي الناس. الناقد مثل القاضي، وأي انحراف لا يغتفر لناقد.
لكن الأفكار التي نراها في برامج مثل "أمير الشعراء" مثلا تخالف ما نعرفه عن النقد الجاد، هو نوع من النقد التليفزيوني الذي يستجيب للجمهور، كيف تقيم هذه التجربة؟ وهل أنت نادم علي مشاركتك فيها؟
- لا إطلاقا، ولو دعيت للمشاركة في مثلها مرة أخري سأشارك، أنا أقيمها في نقاط موجزة، الأولي كمبدأ عام أن تستغل بعض الثروات العربية لتشجيع الإبداع والمبدعين هذا أمر أرحب واحتفي به لكن بشرط ألا تكون مدخلا للنفاق أو لإضعاف المستوي الابداعي، ولكي أوضح سأقارن بين جائزتين، جائزة الملك فيصل وجائزة الشيخ زايد، الأولي بها شرط مفهوم ضمنا غير مكتوب بأنها تستبعد التقدميين، لا تقر ترشيح إلا التقليديين، وتمنحهم مئات الآلاف، أنا اعتقد أن هذه الجائزة مع أنها استثمار ثقافي لكنها تضر بالحياة الإبداعية والثقافية، لأنها لا تعترف إلا بالمكرسين، والمحافظين، الوحيد الذي حصل عليها ولا ينطبق عليه ذلك هو يحي حقي، ويعتبر استثناء وكانت في الدراسات الروائية وليست في الإبداع. لكن جائزة الشيخ زايد وأنا أحد المشاركين في تأسيسها اشترط ألا يدخل فيها أي معيار سياسي غير ابداعي وان تكون منظومة القيم هي الفكر والثقافة والإبداع ودرجة الجودة، وظلت علي هذا في السنوات الخمس التي اشتركت فيها.
نصل "لأمير الشعراء" هو رجل مولع بالشعر خصص جائزة للشعر النبطي، فقيل له لماذا لا تخصص جائزة للشعر الفصيح وهو يتجاوز كل العاميات، وتشجيع للشعر الفصيح في الوقت الذي كان يقول فيه بعض الأصدقاء من النقاد أن الرواية أصبحت هي ديوان العرب ولم يعد هناك شعر، شيء جميل، لكن في أول اجتماعاتي معهم اعترضت علي أمرين نجحت في واحد ولم أنجح في الثاني، اعترضت علي دخول قصائد المدح ضمن المسابقة، قلت أن المدح لم يعد غرضا من أغراض الشعر الحديث، انتهي منذ منتصف القرن العشرين، ففوجئوا، وقلت إن ضميري لا يسمح لي بأن أرتد عن مبادئي التي أؤمن بها، وكلموا الأمير ولأنه ذكي اصدر قرارا بمنع قصائد المدح في أمير الشعراء، أما ما فشلت فيه فهو تغيير الاسم، قلت لهم إن أمير الشعراء اسم مصري وهو أحمد شوقي وإطلاق المشروع بهذا الاسم يبدو وكأنه محاربة لذكري شوقي، لكنهم أصروا علي الاسم باعتبارها مسابقة للشباب، وعلي مدار الموسم الأول كله كنت أقول إننا بصدد مسابقة أمير الشعراء للشباب حتي أثبت الاسم.
المهم أن الهدف الأساسي هو تشجيع الشعر، وفي كل عام يتقدم الآلاف يرون في أنفسهم أنهم شعراء، يتم تصفيتهم في النهاية حتي نصل إلي خمسة، البرنامج إذا حقق هدفه في تشجيع الشعر والشعراء.
أما مسألة تدخل الجمهور أو التصويت، فهناك لجنة تقرأ النصوص المكتوبة وتختار منها 200 شخص، وتصفي حتي 25 شاعرا، هؤلاء كأنك منحتهم شهادة أو اعترافا بأنهم شعراء، أنت لا تقدم للناس أشخاصا أتيت بهم من الشارع أنت تقدم للناس شعراء حقيقيين، وسبب مشاركة الجمهور أنها ليست مسابقة حجرات مغلقة، المسابقة معروضة في التليفزيون ولها جمهور كان عازفا عن سماع الشعر، فما هي المصيدة التي يمكن بها أن تجذبهم، أن يتدخل في الاختيار، أن يتدخل في التفضيل، وأنا كنت أدعو في هذا الوقت لجماليات التلقي والاستقبال واحترام رأي المتلقين في الأعمال الأدبية، كتبت دراسات طويلة حول هذا الأمر، فعندما أجد برنامجا كهذا يجذب الجمهور ويتفاعل معه، هل أبتعد عنه لأنه ضد مبادئي كناقد، أم أشارك فيه لأنه يحقق مبادئي كناقد؟
هناك الآن وسائل لقياس نسبة المشاهدة وعلمت أن الحلقات الأخيرة تمت متابعتها من 20 مليون جهاز، فلو قلنا إن متوسط مشاهدة الجهاز أربعة يعني انني أمام 80 مليون مشاهد سمعوا الشعر وسمعوا نقد الشعر، فهل هذا شيء أحرص عليه أم أرفضه؟
وبشكل عام فمشاركه الجمهور في الحكم لا تغير كثيرا إلا علي مستوي الترتيب وهي مسألة لاتعني الكثير، وحتي أخلص ذمتي كناقد كتبت مقالا قلت فيه إن تميم البرغوثي هو من يستحق المركز الأول، وما زلت أري أن احمد بخيت أيضا أفضل ممن تفوق عليه. هذا البرنامج علي الرغم من كل الاعتراضات التي وجهت إليه والتي أتفهمها وأدرك دوافعها النبيلة كشف عن مواهب شعرية عظيمة في كل البلاد العربية ومن أين لي أن اعرف هذا كله إلا عن طريق برنامج كهذا؟
إلا الشاعر هشام الجخ
لكن هل البرنامج يدعم الاتجاهات اليمينية في الكتابة؟
- إطلاقا. سأحكي لك آخر تجربة تصادف أن كانت التصفية النهاية وقت أن كان الثوار في الميدان، وجاء هشام الجخ، شعره الفصيح ضعيف جدا، لكنه ثوري وأصبح رمزا لمصر، وهو ممثل من الطراز الأول، لا يوجد في تاريخ الشعر العربي من قبض أموالا ليلقي الشعر، كل الشعراء يدفعون حتي يسمعهم الناس إلا هشام الجخ هو الوحيد الذي نظم حفلات وقبض من ورائها الآلاف لتأتي الناس وتسمعه، وكان فريق الإنتاج متحمسا له جدا رغم ان كان هناك شعراء مصريون أفضل منه منهم أحمد حسن وهو شاعر حقيقي، وأحمد حسن عبد الفضيل لكن فريق الإنتاج أصر علي هشام، لأنهم كانوا يريدون من خلاله اجتذاب المشاهد المصري، لأن مصر كانت أقل نسبة مشاهدة، وبالفعل حقق لهم هشام ما أرادوا.
بدأت بالحديث عن الأجيال علي مستوي الكتابة، لو طبقنا هذا الكلام علي مستوي النقد، الآن هناك كتابة جديدة، تستحق نقادا جددا..
- والله أحرض الشباب بأقصي ما أستطيع، لكن عندي مشكلتين الأولي هي اللغة فلكي يكون الناقد محترما لابد أن يتقن لغة أجنبية، لابد أن يتابع الفلسفة وعلم الجمال والتيارات النقدية العالمية، أنا لغتي الثانية الاسبانية لكن كل ما يصدر في العالم يترجم للاسبانية لذلك لا أشعر بالغربة، للأسف جامعتنا تدهورت في إعداد الأساتذة بإلغاء البعثات وافتقاد المتقنين للغات الأجنبية، هناك بعض الشباب موهوبون جدا حتي بدون لغة واعرفهم لكن للأسف وسائل الإعلام لا تعطيهم الفرصة. لابد أن يكون هناك تيار لإعداد النقاد وهذا مفتقد بتدهور التعليم، وتيار لإتاحة الفرصة لمن أعددته لأن ينتج ويظهر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.