ضحيت بكل شيء يمكن أن يعطلني فكريا, واخترت طريق العزوبية ولم أفكر في زوجة ولا ولد لأتفرغ للفكر, فماذا كانت النتيجة؟ سؤال طرحه علي الدكتور عاطف العراقي الذي نال جائزة الدولة التقديرية لهذا العام واجاب قائلا: أحيان يراودني شعور بأني وحيد وطائر في الهواء, لأن مصر التي أعطتني جائزة أفخر بها, لم تعطني دوري في أن أقدم لها ما أردت تقديمه, كان من الممكن أن أعطي أكثر لكن الفرصة لم تتح. كلمات مريرة لاتعبر عن فرح حقيقي بالجائزة التي نالها أستاذ الفلسفة الذي تتلمذ علي يد كبار المفكرين المصريين أمثال زكي نجيب والأب جورج قنواتي والدكتور زكريا إبراهيم حتي صار واحدا من أبرز دعاة التنوير في مصر والعالم العربي ولقب ب ابن رشد المصري. ولم تفارق سيرة ابن رشد المصري سيرة ابن رشد الفيلسوف الاندلسي كثيرا, اذ واجه الأول دعاوي قضائية بسبب دفاعه عن الثاني, وهو ما وصفه لنا العراقي في حوارنا معه قائلا: أشعر كأن التاريخ يعيد نفسه, فما حدث مع ابن رشد بعد أن عاد من المنفي, حدث معي بعد أن برأتني محكمة الجنايات من التأويل الكاذب لدفاعي عن ابن رشد الذي ظل حبيسا بداره وامتناع الناس عن لقائه بعد أن عاد إلي وطنه, وحتي اليوم هناك بعض المؤسسات امتنعت عن التعامل معي بسبب دفاعي عن العقل وتغليبي لفلسفة ابن رشد. * أبدأ أولا بتعليقك علي الفوز بجائزة الدولة التقديرية الذي قلت فيه سعيد بأن الترشيح جاء من الاتيليه, بعيدا عن الجامعة وأسألك لماذا؟ ** بعض الجامعات لم يكن لديها مانع في ترشيحي, لكن نظام الترشيح في الجامعة كثيرا ماتشوبه مشكلات, وينص قانون الجائزة علي أن تختار كل جامعة شخصا واحدا فقط في كل فرع من الجائزة, وفي بعض الجامعات يرشحني مجلس القسم, ثم الكلية ونأتي للجامعة فينحاز المجلس لشخصيات لها بريق إعلامي, أو يميل المجلس للاختيار بناء علي موقف سياسي, وهذا يذكرني بكلمة استاذي الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب حصاد السنين عن ظاهرة عملقة الاقزام وكان يري أن التلميع الاعلامي والسياسي كثيرا ما يجعل من قزم عملاقا وأضفت في مناقشة معه لهذه الأسباب ادعاء المرض فالبعض يدعي المرض ليثيروا الشفقة في نفوس اعضاء المجلس الذين سيصوتون لهم. * ألا يرتبط ذلك بتخلي أساتذة الجامعة عن الدور الاجتماعي وعن الوجود في الساحة العامة ليزدحم هذا الفراغ بالأقزام علي حد تعبيرك؟ ** هذا أيضا من أسباب سعادتي بأن الترشيح جاء من الاتيليه, اذ أن هناك فارقا واسعا بين المتخصص وبين المثقف, فليس كل أستاذ جامعي مثقفا, والمثقف هو أن يضيف إلي تخصصه الاهتمام بالقضايا العامة, وهذا تعلمته من أستاذي زكي نجيب محمود اذ نصحني بألا أحصر نفسي في البحث الاكاديمي الفلسفي, لذا فمكتبتي لا تضم كتب الفلسفة فقط, بل تضم كل الفروع الأخري, وهذا النموذج من المثقفين صار نادرا الان. كذلك لا يمكن أن تنتظر من أستاذ الجامعة ومعظمهم صار مشغولا بالبحث عن إعارة إلي دولة بترولية أن ينتج فكرا, فهذا الذي يطلق تبريرات لقمة العيش لا يمكن أن ينتج فكرا ولو أراد لمنعه مضيفه في الخليج, من جهة أخري لو أتيحت الفرصة للنشر بانتظام لاستاذ الجامعة المثقف والمهتم بالقضايا العامة بدلا من الكتاب الذين صارت الجرائد تعتمد عليهم وهم في الاساس خريجو مدارس محو الامية وبعضهم مشكوك في أمانتهم العلمية. * لكن بعض الدول البترولية صارت الان أكثر تطلعا لفكرة التنوير وتستضيف المعارض العالمية وتنشئ الجوائز الثقافية؟ ** كل الجوائز العربية مشبوهة, وهناك جوائز عربية تتصل بمن يريدون اعطاءه الجائزة ليقايضوه عن نصف الجائزة واذا رفض لايعطونها له, فالدول العربية تدور حول نفسها, وكل الجوائز العربية مضروبة ويأخذها أناس لا علاقة لهم بالفكر أو الثقافة. * وماذا عن جوائز الدولة التي نلت منها التقديرية أخيرا؟ ** عاصرت جوائز الدولة منذ انشائها في سنة1958, وقد أعطيت لأم كلثوم وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ, لكن لايوجد الان مثل هذه القامات, ولو سألت هل في كل مرة تعطي الجائزة لمن يستحقها أقول لا, فهناك من لم يأخذوها وهم أحق الناس بها. أنا لست ضد الجوائز فأنا أول من حصل علي جائزة التفوق عام2000 والتقديرية التي حصلت عليها أخيرا, لكن من الممكن أن تعدل لائحة الجوائز بحيث تكون اكثر مصداقية وموضوعية, فهل يعقل ألا ينال فؤاد زكريا جائزة مبارك وهو مفكر له أطنان من الكتب والمجلدات ترجمة وتأليفا بعد أن رشح لها مرتين. * يربط البعض بين غياب الفلسفة عن الشارع المصري وبين مانعيشه من حالةفوضي, فما رأيك؟ ** هذا ليس صحيحا, فالفلسفة قدمت حلولا لاكثر مشكلاتنا لكنها مازالت مهمشة, واذا نظرنا لتعاملنا نحن مع الفلسفة سنجد مثلا التعامل الاعلامي مع كلمة فلسفة يضعها دائما محل سخرية, رغم أن كتب الفلسفة المبسطة مازالت تلقي قبولا في أوروبا وكنت أجد الشباب يقرأونها بشغف في القطارات, بالتالي فالعيب ليس في الفلسفة بل في التعبير عن القضايا الفلسفية, وليس مصادفة أن أقدم للمحاكمة بسبب دفاعي عن آخر فلاسفة العرب ابن رشد, فالناس صاروا يخشون الفكر وتقول النساء الشعبيات ربنا يكفيك شر الفكر واكتفوا فقط بالبحث عن لقمة العيش وهذا الرفض هو أكبر عقبة تواجه الفلسفة. *اذا كنا نتحدث عن الفكر السائد فلابد أن أسألك عن تقديرك لانحسار الدور التنويري, وظهور مصطلحات أخري مثل التغيير؟ ** الأزمة أنه ليس هناك هدف ثابت يسعي إليه الكل, فاذا خرجت من منزلك دون أن يكون لك هدف فلن تصل أبدا, ومهما كان هذا الهدف بعيدا فلابدا أن تصل يوما, لكننا لم نحدد ماذا نريد, هل نستمر في نظام القطاع العام أم نتحول لقطاع خاص, هل تقوم الدولة بكل شيء أم تترك السوق حرة, وما إلي ذلك من أسئلة وكلها أسئلة لابد أن نحسمها أولا. والكلام عن التغيير يجعلني أسأل أولا: ماالقصد من التغيير؟ فهناك مجالات كثيرة للتغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي, لايمكن أن يتم التغيير إلا اذا اتيحت لتكون الفرصة للمثقفين التنويريين لكن كلمتهم هي المسموعة. وأذكر هنا أن توفيق الحكيم ميز بين الثورة والهوجة وكان يقصد ثورة يوليو1952, وكان يفرق بينهما قائلا: ان الثورة تبقي علي الصالح وتزيل الفاسد, اما الهوجة فتقتلع الصالح والفاسد معا, ومن المفترض أن يكون لدينا حرص علي الثوابت الصالحة, وأن نتخلص من الفاسدة, ولكي تتقدم مصر لابد أن تتأثر بأوروبا وأن تسعي لأن تصبح قطعة من أوروبا كما كانت في عشرينيات القرن الماضي, ومصر كانت مهيأة في هذا الوقت لذلك لو كان النظام الملكي استمر, ولذلك أهديت أكبر كتبي ثورة النقد في العالم الأدب والفلسفة والسياسة لروح مصطفي النحاس باشا, لكن تقف أمام هذا الحلم القيود التي كبلت مشروع مصر التنويري. * في رأيك مايحدث في الشارع المصري الان: ثورة أم هوجة؟ ** لايمكن أن أطلق حكما علي مئات الاعتصامات والمظاهرات, فحتي أطلق حكما لابد أن أدرس كل حالة ومطالبه. * باعتبارك أستاذا للفلسفة الاسلامية كيف تقدر سيطرة الشعارات الدينية علي الحياة السياسية في مصر؟ ** ويل لشعب يخلط بين الدين والسياسة, فهذا يؤدي إلي الرجوع إلي الخلف, نحن دول اسلامية بمعني أن الدولة لا تمنع أحدا من ممارسة شعائره الدينية, لكن لا يدخل الدين في الخطاب السياسي, وليس المطلوب بهذا الكلام أن نلغي البعد الديني من الخطاب التنويري والسياسي فالشيخ محمد عبده علي سبيل المثال لم يفعل ذلك, لكن يجب أن نفهم أن الدين ثابت والسياسة متغيرة, وكل حكام العالم يستندون علي كتاب الامير لمكيافيللي وخصوصا قوله الغاية تبرر الوسيلة وهذا ضد المبدأ الديني. لكن تجد حركات مثل الاخوان المسلمين يفعلون ذلك وهي حركات ممولة من بعض الدول البترولية, وويل لمصر إن صار بها حزب ديني. * لكن هذه اللحظة التي يعيشها المجتمع المصري الان, فالشارع لايقوده فلاسفة أو مفكرون أو حتي قادة سياسيون؟ ** لا هذا ليس حقيقيا, فهذه الحركات تتعمد رسم صورة وشعارات براقة, وتأخذ تمويلا من دول أخري لهذا الغرض, وتسوق لها مؤسسات اعلامية باعتبارها حركات مسيطرة علي الشارع المصري, وهذا ليس صحيحا, ولا يمكننا التصدي لكل ذلك إلا بالدعوة إلي التنوير. * تقلل من شأن الحركات الاسلامية مع أنك خضت مواجهة معهم في محكمة جنايات المنصورة عام1998 ؟ ** نعم, فقد اكتشفت في هذه المحاكمة أن كل من يتشدقون بالكلام عن حرية الفكر والتعبير مجرد مدعين, ولأنني لست جزءا من شلة فلم يدعمني أحد وقد انتصرت في هذه القضية بالقانون الذي برأني, ولعل توابع القضية كانت أقوي منها نفسها, اذ تم تهميشي. وحين أتأمل ما حدث بقضية ألف ليلة وليلة أجد أن الجميع وقفوا يتصدون لمصادرة الفكرة والتيار الديني المتطرف, وهذا جميل, لكن أين كان هؤلاء حين كاد يزج بي بني آدم من لحم ودم في السجن؟! وهذا يبدو لي دفاعا مكذوبا ومغرضا, لأنهم محكومون بالشللية فاذا كنت جزءا من الشلة تقوم القيامة, الأمر لايتعلق بالتوجة الفكري أو القضية.