إفاقة سحبها إلي مقبرة فرعونية.. نعم تحبه.. لو لم تكن تحبه لما أعطته أي شيء. اليوم، قّلما يأتي أحد لمشاهدة المقابر.صمت قاتل. طنين الذُّباب هنا عال. دارا في غرف المقبرة يشاهدان (التصاوير) علي الجدران (بنات فرعون في الحمام) استيقظت في داخله أشياء نائمة. اخترقته نظراتها وهو يحدق تحت الْمَاء، طبطبت علي الصورة،كأنها تغرق بنات فرعون، تمحوهن من مجال رؤيته، أرادت أن تكتمهن. لمس يدها. لا تخش عليهن إنهن بسبع أرواح. ضغط علي يديها. نفذتْ حرارة يده داخلها. أنفاس الموتي تتردَّد. داعب خصلات شعرها. الذُّباب يعزف ألحانا جنائزية. استرخت أعصابها.أنين الموتي يمزق أرضية المقبرة.تراب ثلجي ينتشر في المكان.بلا وعي ارتمتْ فوق التابوت. صراخ التَّابوت مزَّق الجدران. انقض عليها. وَلْوَل التَّابوت وعلتْ أصوات استغاثة. ما يزال الذًّباب يطن. في غيبوبة النَّشوة فتحت عينيها. نظرتْ في سقف الغرفة.. (شخص يحمل ميزاناً، يزن القلب بالرِّيشة. تُقَدم نتائج المحكمة لشخص مهيب. طاش القلب. رجحتْ كفة الرِّيشة. صدرتْ الأوامر. تقدمتْ الحيَّات والتماسيح. رُفعت الموازين. طارت الصُّحف والأوراق. قصف.. رعد.. دماء تنفجر) توقف قلبها، صُبَّ عليها حممْ وثلوج. مَسَح قطرات العرق اللزجة من فوق جبينه وهو يسوي ملابسه. أصوات أقدام تقترب. انتفضت وهي تردِّد: الحارس.. الحارس. لمن؟ امتدتْ الأيدي المتسخة المتشنِّجة. تسابقتْ في لهفة.جمعت أعصاب الجسد كله في القبضة.. في أطراف القبضة. التقاء الأكتاف المنحنية جعل الأيدي تقبض الفراغ، تتدلي في الهواء. لم تعد العيون تري التفاحة التي جمعت الأنظار في بؤرة واحدة. أمسكت بها يد. الأصابع المتشنجة تندس بين فتحات اليد الماسكة علي التفاحة. تحاول نزع الأنامل. اليد تشتد في حرص. الأيدي تكومت علي اليد. انزلقتْ اليد لأسفل، لمستْ الأيدي التفاحة. تكوم علي يده حَتَّي صار تحتهم. اخترقهم صوت الجسد الضَّخم القادم من العتمة. ما الخبر؟ اجتاحه فرح طفولي جعله يرفع التفاحة وهو يشير إلي صدره. أنا وجدتها إنَّها لي. أمسك بها الضخم. حدَّق فيهم. انكسرت عيونهم. رفعها علي بطن يده متحدياً. ازداد انكسار العيون. دار بها حول أنوفهم. التصقتْ أذقانهم بحناجرهم. توقفتْ التفاحة عند أنفه، خفَّ وزنه، لمعتْ عيناه. امتدَّت يده طَرباً تأخذ التفاحة. سحب الضخم يده وألقاها بين فكيه. وَلَِدي عيناها متوترتان، ساهمتان، لا تتزحزحان عن الفتحة المؤدية إلي سلم الطائرة. طار قلبها عند رؤية انحناءة جسده، قبل أنْ يعتدل. هبوطه لدرجات السلم: قفزات قلبها خارج جسدها. »لك وحشة يا عفريت». لحظات عبوره الممر الضيق بالحقائب كلابيش تطوق عنقها، تحبسها في غرفة غاز أعصاب توتر جسدها كله، تتمني الإفراج، الانطلاق. تغمرها الفرحة. تقدمتْ، خطواتها غير منتظمة، تتخبط. عندما اقتربت منه فتحتْ ذراعيها بلهفة، أنفاسها لهب أغمضتْ عينيها علي ابتسامة فرقتْ تجاعيد الوجه. لمتْ يديها، ضمتْ بفرحة، كاد كتفاها يتلامسان. تخشبتْ، تجمد وجهها، سلبت الحياة منها فجأة.. فراغ بين ذراعيها. نظرتْ جانبها، كانت زوجته بين ذراعيه. حَنِين نظرتْ لبطنها. شعاع الغروب ينتشر في الشرفة. اصفرار وجه الشَّمس يدمِّع قطرات حمراء. هي سابحة في لا شيء، تنظر من نافذة الغرفة تلمح الألوان الداكنة علي أوراق الشجر، في البعيد، عنزة سوداء تتحرك ببطء. اختلطت أشعة الشمس بلون الخضرة فكست وجهها بكلاحة ظاهرة. تحسستْ بطنها، تشعر بقيء مفاجئ.. تغالبه، تدفعه، تود أن تلفظ شيئاً، تذكرت (كريم) ولد أختها.. تداعبه، يقرص خدها. تعضه، ينطحها برأسه. تضحك من قلبها. تغرسه في صدرها، لا يستطيع نزع نفسه..يضغط علي بطنها كي ينفك، يفر.اختفي جزء من قرص الشمس الممتد في الأفق. اضطرب السَّواد. شدَّتْ علي بطنها. ما يزال جزء من قرص الشَّمس في الأفق. انحداره يشي بظهور ليل طويل. دققت النَّظر. كم مَرَّ من عمرها؟ الأوراق تقول إنها في الأربعين ولكنها لم تولد بعد. لم تتفتق. كاد قرص الشمس أنْ يختفي. عصرتْ بطنها. يشتد حنينها إلي ساكن لأحشائها، يضرب بطنها، يؤلمها. ما يحزنها أن الدَّار خالية.. لا صوت، لا دفء. لسعتها نسمة هواء جعلتها تفتح عينيها. غاب قرص الشَّمس ولكن أشعته ماثلة في الوجود. حنت لحفيد. استرختْ يدها من علي بطنها. العنزة تتلوي في حركات عنيفة. بلا وعي سقطتْ يدها من علي بطنها. خرج من سواد العنزة شيء أبيض يتحرك. ذهب في الطَّريق. وقفنا أنا وأخي الأكبر نأكل طعاماً أوحشه كثيراً في الغربة. عندما أشرتُ للمقهي الذي علمني عليه لعب الطَّاولة، رمي وجهه بعيداً. لاحظت أنَّه كان يبلع الكلمات وهو يحدثني وكان صمته يغلي. وعلي غير العادة دفعتُ أنا الحساب. سَعَادة في الإشارة الحمراء: تصببتُ عرقاً وأنا أتجاوز اندفاع السيارات؛حَتَّي عبرتُ الطَّريق. التفتُّ أبحث عن صديقي الذي لازمني من زمن. كان محاطاً بأولاده وزوجته، وعيناه تنتظران في هدوء: الخضراء. مَحَطَّة في الموقف القائظ حاولتُ مؤانستها بكلمات تقتل لُزُوجَة الانتظار، تركتني وابتعدتْ. عندما لمحها سائق الأتوبيس، فتح الباب وابتسم. جريتُ ناحيته وأنا ألوِّح له بيديَّ. بصق من نافذته الجانبية وداس علي ظلالي. رَشاش الْمَاء حرارة الجو تنفذ في نخاعه فتهدّ جسده هدا. ارتمي علي المقعد اللين لعله يمتص أشعة الكسل المخزونة في جسده. نزع قميصه وألقاه فداعب الهواء حبات العرق المتناثرة علي جسده فنشط من عقال أسلمه للُزُوجة باردة اجتاحت خلاياه. نهض في تراخ صوب الحمام ليزيل تراكمات الكسل التي خلَّفها اليوم. خلع ملابسه. فتح رشاش الْمَاء. اصطدمتْ القطرات بالرَّأس. اخترقتْ مسامه التعبة. داعب خصلات شعره المبلول فانسابتْ الذكريات عبر قطرات الْمَاء في تداخل غير متتابع فلم يستطع الإمساك بذكري واحدة.. غيامات. كم الساعة الآن؟ عمر طويل وهو يلهث وراء هذا المجد. القطرات سنوات متعاقبة، متلاحمة. ارتطمت قطرة بعينه فأطبق جفنه.لا يدري لماذا فعل ذلك ولكنه فعل ذلك وانتهي الأمر.فرك عينيه يزيح الحرقة. لم يكن في وعيه حين وَقَّع علي الأوراق، أغشته الآلاف. ولكن العمارة استقر حالها حَتَّي نسي ما فعل. انقطع تيار الْمَاء فجأة. تحسس جسده المغمور بالماء. غزته صورة الأشلاء المتخلفة عن العمارة المدكوكة. سخن جسده. من بين فقاعات الصَّابون فتح عينيه بصعوبة.اكتشف عورته. لم يشعر أنَّه عار تماماً إلا الآن. حاول أن يداري عورته حَتَّي لا يراها. لسعته سياط الْمَاء المندفعة فجأة. حاول أن يغلق رشاش الْمَاء. يداري عورته. استعذب لسعات الْمَاء. راح يغني وأذنه لا تسمع. أبيض كجناحي الطائرة صندوق باهتْ قليلاً وصدئ، أشعر أنه فارغ ومهمل من عشر سنوات. علي صدر الصُّندوق طائرة بيضاء جديدة بجناحين تنوي الطَّيران. المرأة العجوز الطَّيبة كريشة تقدمت بوجه أبيض ناصع وجميل كجناحي الطائرة. لفتْ حول الصندوق بقلب أم وتمتمتْ وكادتْ شفتاها الحلوتان أنْ تلمسا حديد الصندوق.طبطبتْ عليه وراودني أنَّ غائبها دافئ القلب مثلها يكتبُ رسائل لا تضيع ولا تصل. لم ترفع يدها اليسري من فوق صدره وفتحتْ حقيبة بلون دم لغزال وأخرجتْ مظروفاً بلا عنوان وأبيض كجناحي الطائرة، مسحتْ به صدرها وقبلته ودفعته في الفتحة العلوية. احتضنتْ الصندوق وعادتْ للخلف تلوِّح بيدها لجناحي الطائرة. يُشْبه الوَخْز الذي في قَلْبي بيني وبينكَ مِقْعَد وحيد وعشرون عاماً مرتْ دون لقاء. لمْ ألتفتْ إليكَ وبقيتُ مخشباً أغلي في صمتي، تتملكني رغبة أنْ أقوم وأعانقك وأسألك عن العشرين عاماً الفائتة، ماذا فعلتَ بها، وماذا فعلتْ بك..؟يطفو فوق قلبي حنين للشجرة التي تعرفتُ عليك عندها عندما كنتُ أحفر اسمي في الجهة المقابلة لاسمك. دُرنا حولها ووضعنا أسماءنا داخل دائرة واحدة وَضَرَبَنا مدرس الحساب وسط الطابور. رأيتك تنظر بطرف عينيك، تَمُد قلبك ناحيتي وشيء يُشْبه الوَخْز الذي في قلبي يمنعك من وصالي. كيف سأنطق أنِّي لم أفعل شيئاً في العشرين عاماً السَّابقة حين ستسألني عنها؟ ببساطة، قررتُ أنْ أحكي لك عن مشروعات كنتُ أنوي تحقيقها، ثُمَّ سأسألك ماذا فعلتَ أنتَ؟ لماذا نزلتَ من السَّيارة وأغلقتَ الْبَاب بحزن جعلني أهتف "علي.. علي".. كانت عيناك تبرقان بفرح طفولي كالذي كان تحت الشجرة. بقيتَ تشير لي بيدك كمروحة "عبده.. عبده"لم يتوقف السَّائق وكنتُ سعيداً؛ أترك لك رأسي خارج السَّيارة وأبتسم ملوحاً بيدي ولساني يُردِّد "وحشتني يا علي وحشتني قوي"وأنتَ ما تزال تلوح بيدك كمروحة تبعثُ فوق قلبي هفيفاً في عِزْ الحر. دَم زكريا قعد زكريا مع عودِه وكاترينا والكاميرا علي مقهي الكريستال. طلب شيشة تفاحة. صوَّر كاترينا تدخن الشِّيشة. استخرج من بطن العود كلام البَحْر الخفي، وصهيلاً وزقزقة تجمع النَّاس لها. صوَّرتهم كاترينا يبتسمون. ثقبَ زكريا سبابته بدبوس وأسقطَ قطرات دمه فوق جمر التفاحة. دخلتْ رائحة دمه المحترق دخان المعسل ويود الكورنيش وخياشيم النَّاس وقالوا: »الله» وعيونهم علي كاترينا، ولم يلحظ أحد خيط الدم الواصل من يده لبطن الشِّيشة وعنق العود، ولم يهتم برحيله سوي كاترينا والجرسون. كان صد يقي يُحب العِنَب ابتسمَ طبق العنب لما ابتسمتِ حين قال الولد: » بابا.. بابا». احتضنته ووضعتُه فوق فخذي. أخذتُ عنبه براقة ووضعتُها في فمه الرَّقيق، فقلتِ ليِ: »اشرب الشاي» ورأيت خجلاً بريئاً تحت حمرة خديك. تأملني الولد وأخذَ عنبة ووضعها في فمي فقبلتُه وضحكنا معا. أمسكتُ طبق العنب وأعطيتكِ واحدة وجريتُ وراءه، قبلته ودسستُ في فمه واحدة فأغلق أسنانه وفتح شفتيه يداعبني. ضحكتُ وقبلتُه مَرَّة أخري وأنتِ جالسة تنظرين وتبتسمين ببريق عينيك. جري لك فاحتضنته وأعطيتك حبة أخري فخطفها من يدي ووضعها في فمه وانحنينا نقبله في وقت واحد وشعرتُ بدفئك وشعرتِ بدفئي وتلاقتْ أعيننا فنظر لنا وقبلنا وجري. جريتُ وراءه فوقع وشهقتِ وكاد كوب الشاي أنْ يقع لكني لحقت الولد ورفعته فقهقه وقهقهنا وظللنا سوياً ندس في فمه حبات العنب وهو يضحك، يضحك. نزلتُ ولم أسألك عن صورة صديقي الحبيب المعلقة علي الحائط، ولم تحدثيني عن سبب الزِّيارة، لكنِّي شعرتُ أنَّ روحه كانت واقفة علي الْبَاب ودخلتني حين طرقتُ وتركتني حين ألقيت للصغير قبلة في الهواء وأعطيته ظهري.