مؤخراً تحقق نيابة أمن الدولة العليا في التهمة الموجهة إلي الدكتور يوسف زيدان بتهمة ازدراء الأديان. صاحب الدعوي يريد التفتيش في ضمير صاحب رواية "عزازيل" تماماً كما كان يحدث في محاكم التفتيش الأمريكية. وكما كان المبدعون الأمريكيون مطالبين بدفع تهم كراهية الوطن واعتناق الشيوعية والعمل علي خدمتها فإن زيدان مطالب بإثبات عدم تلطيخه للدين في غرف التحقيقات.. تاريخ المكارثية ليس خافياً عنا.. وهو تاريخ محمل بالعِبر.. والأرشيف لا يكذب. في فترة انتهكت أمريكا -التي كانت تتباهي بمشروعها الديموقراطي القائم علي التعددية- حرمة حرية التعبير وأجرت في الفترة من عام 38 حتي 51 تحقيقات مع عدد كبير من المفكرين والأدباء والسينمائيين والمسرحيين الأمريكيين بسبب الاشتباه في انتمائهم للحزب الشيوعي. القمع الفكري وصل في هذا البلد إلي أنّ الرئيسين الأمريكيين السابقين ريتشارد نيكسون ورونالد ريجان اشتركا في القيام بجانب من مجريات هذه التحقيقات، كما أن المخابرات الأمريكية ساورتها الشكوك بشأن ولاء كل من إليانور قرينة الرئيس روزفلت وأبي القنبلة الذرية عالم الفيزياء أوبنهايمر لأمريكا! الانتهاكات بدأت قبل ظهور جوزيف د. مكارثي بكثير ولكن بدأ استخدام مصطلح "المكارثية" في 9 فبراير 1950، وهو اليوم الذي ألقي فيه هذا السيناتور خطاباً في فيرجينيا. كان مكارثي سيئ السمعة ولا يعرفه أحد خارج دائرته الانتخابية في ولاية ويسكونسن، وفي خطابه اتهم وزارة الخارجية الأمريكية بأنها تضمّ مائتين وخمسة من الشيوعيين.. تراخوا وسلموا الصين لقمة سائغة في فم الشيوعيين، واستطاع مكارثي الذي نال من سمعة هؤلاء الأشخاص أن يحوّل الهجوم الكاسح الذي قادته ضده بعض الصحف إلي نصر كاسح، ولكن نجمه هوي تاركاً مشاعر الخزي للأمريكان الذين أدركوا أنهم خضعوا لهذا الأسلوب الابتزازي القميء.. التحقيقات لها ملامح، أولها الإحساس بالخوف في نبرة معظم من يتم استجوابهم، فالتهمة معناها تلطيخ السمعة، ولهذا فإن كثيرين نفوا بشكل واضح وقاطع أية علاقة لهم بالشيوعية، ولكن بعض أصحاب الذمم كانوا يصرّون علي التأكيد أمام المحققين أن أمريكا ستفقد مشروعيتها كدولة ديمقراطية إذا أشاعت الخوف بين مواطنيها وألغت حقوقهم في التعبير عن اختلافهم. أثارت لجان التحقيق موجات من الذعر والارتباك.. وقد بدا هذا الارتباك في المواقف المتناقضة لبعض المثقفين.. ففي أكتوبر 1974 قام الممثل السينمائي جون جرافيلد بالتوقيع علي البيان التالي: نحن الموقعين أدناه _بوصفنا مواطنين أمريكان يؤمنون بنظام الحكم الدستوري والديمقراطي- نشعر بالعار والاشمئزاز من المحاولات التي تبذلها لجنة التحقيق المنهاضة للأنشطة المعادية للأمريكان لتلطيخ سمعة العاملين في صناعة السينما، ونري أنّ لجان الاستماع المنعقدة ترتكب خطأ أخلاقياً لأن أي تحقيق حول معتقدات أي فرد يعتبر خرقاً وانتهاكاً للمبادئ الأساسية التي تنهض عليها ديمقراطيتنا، وأي محاولة لقمع حرية التعبير وإقامة مجموعة من المعايير التعسفية لمفهوم الأسلوب الأمريكي في الحياة هي في ذاتها انتهاك لنص وروح الدستور الأمريكي.. ولكن المدهش أن جرافيلد استدعي نفسه طواعية للمثول أمام لجنة التحقيق في الأنشطة المعادية للأمريكان، وبادر بتبرئة نفسه من أي تهم يتم توجيهها إليه من قبل هذه اللجنة التي سبق أن وصفها بأنها مثيرة للتقزز والعار، وقال: كنت أكره الشيوعية علي الدوام، فهي طغيان يهدد بلادنا كما يهدد السلام العالمي. عندئذ لم أكن بطبيعة الحال عضواً في الحزب الشيوعي أو متعاطفاً مع المبادئ الشيوعية، ويسرّني أن أتعاون مع اللجنة! وهكذا تخلّي الفنان طواعية عن موقفه. كما بدت الطريقة التي انتهجها البعض لتبرئة أنفسهم سخيفة، ولكن يبدو أن الخوف من محاكم التفتيش كان أكبر وأهم من أي شيء آخر.. جوزيه فيرر الممثل في برودواي نشر _ مثلاً- صفحة إعلان كاملة في جريدة "هوليوود ريبورتر" كي ينقذ نفسه: أشهد تحت القسم أنني لست ولم أكن في يوم من الأيام، كما أنه لم يكن بمقدوري أن أنضم إلي عضوية الحزب الشيوعي، فضلاً عن أني لست علي وجه الخصوص متعاطفاً مع أي من الأحداث الشيوعية، أو رفيق طريق، أو مشجع لمفهوم وهدف الحزب الشيوعي بأي شكل من الأشكال!! السخافة وصلت إلي ذروتها أيضاً في محاولات التنصل من أعمال فنية. وهو ما فعله روبرت تايلور مع فيلم "أغنية روسيا"، قال تايلور: يجب أن أعترف بأني عارضت بشدة تمثيل هذا الفيلم وقت إنتاجه، فقد شعرت حسب طريقتي في التفكير بأن هذا الفيلم يحتوي علي دعاية شيوعية. كان هذا رأيي الخاص غير أن كثيراً من أصدقائي ومن الناس الذين أحترم رأيهم لم يوافقوني علي هذا الرأي، وعندما تسلمت سيناريو الفيلم شعرت بأنه يحتوي علي دعاية شيوعية، فاعترضت علي إنتاجه من هذا المنطلق، وأكد لي المسئولون في الاستديو أنهم سوف يستبعدون أية دعاية شيوعية قد يتضمنها السيناريو، ويجب أن أعترف أنهم استبعدوا بالفعل كثيراً من النقاط التي اعترضت عليها! وحفظاً لماء وجهه قال تايلور في نفس التحقيقات: إذا كنت أعطيت الانطباع في أقوالي السابقة أنني كنت مضطراً إلي الاشتراك في تمثيل "أغنية روسيا" فإني أحب دفاعاً عن نفسي، حتي لا أبدو عبيطاً بعض الشيء بالكلام عن اضطراري إلي تمثيل الفيلم، أن أضيف أنه ليس في مقدور إنسان أن يرغم إنساناً آخر علي التمثيل في فيلم، صحيح أني اعترضت علي إنتاجه، ومع ذلك فقد اشتركت في تمثيله في إطار الظروف القائمة آنذاك! ولكن رونالد ريجان الذي كان وقتها نقيباً لممثلي السينما كان أكثر حرفية في ردوده: في حدود حقوقنا الديمقراطية ودون أن نتجاوز الحقوق التي كفلتها لنا الديموقراطية أعتقد أننا قمنا بعمل جيد في الحد من أنشطة هؤلاء، وبعد كل شيء وجب علينا الاعتراف بهم في الوقت الحاضر كحزب سياسي! وقال له رئيس اللجنة: لقد أثار اهتمامي شيء واحد هو عبارة مقتبسة من جيفرسون وهو ما حدا بمجلس الكونجرس إلي إنشاء هذه اللجنة (لجنة التحقيق) ومفاد هذه العبارة أنه بمجرد أن يعرف الشعب الأمريكي الحقائق لن يكون هناك أدني شك في أنه سيقوم بفعل ما يريده، وهو أن يجعل أمريكا قدر المستطاع أطهر مكان علي وجه البسيطة، ونحن اليوم نرغب في تقديم الشكر لله. ورد ريجان: سيدي إنني أحمل الكراهية وشديد المقت للفلسفة التي يبشرون بها، ولكن كراهيتي لتكتيكاتهم أعظم من كراهيتي لفلسفتهم، فهي نفس التكتيكات التي كان يستخدمها الطابور الخامس (الجستابو) فضلاً عن افتقارهم إلي الصدق والأمانة، ولكن بوصفي مواطناً.. لا أحب في نفس الوقت أن أري بلدي يتصرّف من منطلق الخوف أو السخط علي هذه الجماعة، كما أني لا أحب أن نفرّط في مبادئنا الديمقراطية نتيجة هذا الخوف أو السخط، وما أزال أعتقد أن الديموقراطية هي الحل الأمثل. أما الممثل جاري كوبر فقد بدا منزعجاً جداً من بيان تم نسبه إليه ونفي علاقته به وأيده رئيس اللجنة الذي سأله: إن صناعة السينما في أمريكا خلال فترة الحرب أنتجت أفلاماً معادية للنازية فها تعتقد يا مستر كوبر أنه من المستحسن الآن أن تقوم بإنتاج أفلام معادية للشيوعية وإبراز أخطارها علي الولايات المتحدة؟ وأجابه كوبر المنزعج: أعتقد أنه من الأفضل إنتاج أفلام بديعة وتتوخي الحقيقة بهدف إبراز الروح الأمريكية الحقة، لقد تم إنتاج عدد كبير من الأفلام وحاولت من جانبي إنتاج بعض منها، ولكني أعتقد أن هناك مجالاً واسعاً لإعادة ترويج ما يتصف به الأمريكان من صفات عظيمة بين الناس، فهذا أروع شيء يمكن تحقيقه في العالم، وإني أدرك أن الغالبية العظمي من الشعب الأمريكي لا تحبّ أن تستبدل بنظامها نظاماً آخر! ووجدت المخرجة هابي فلاجان نفسها في وضعية حرجة للغاية بسبب تصريح كان يمكن النظر إليه بشكل عادي بعيداً عن هذه الأزمة وهو تصريح أقرب إلي المديح في المسرح الروسي. سألها أحد أعضاء لجنة التحقيق: هل قلت إن المسارح في روسيا أكثر حيوية أو أهمية أم لا؟ وأجابت: نعم هذا ما وجدته، وأعتقد أي ناقد مسرحي تستدعونه ليدلي بشهادته سوف يعبّر عن نفس هذا الرأي.