لا يزال مسلسل مطاردة الإبداع مستمراً.. فبعد أسابيع قلائل من الحكم ضد مجدي الشافعي كاتب أول رواية جرافيك نوفل "مترو" بالغرامة من المنتظر أن يمثل الدكتور يوسف زيدان مؤلف رواية "عزازيل" أمام نيابة أمن الدولة العليا بعد قرار النائب العام عبد المجيد محمود بالتحقيق معه في البلاغ المقدّم ضده من الدكتور نجيب جبرائيل مستشار الكنيسة الذي اتهمه بازدراء الأديان والإساءة للدين المسيحي. وهكذا يجد مبدع جديد نفسه مطالباً بالمثول في غرف التحقيقات وبالإجابة عن أسئلة موجّهة، وبالدفاع عن نفسه. وللأسف هناك من يرغبون _بمثل هذه الدعاوي- في هدم جدار الثقة بين المثقفين والقضاء، ولكن هذا لن يحدث، فالقضاة كانوا ولا يزالون هم الملاذ الأهم لتحقيق العدالة، والحفاظ علي القضايا الوطنية، والقضاة كانوا في مقدمة الصفوف جنباً إلي جنب مع المثقفين في كل الأحداث التي استدعت الدفاع عن قضايانا الوطنية. المشكلة تأتي من محرّكي مثل هذه الدعاوي. دعاوي المحاكمات والمصادرات. إنها في الأغلب تأتي من رجال دين من المفترض أن رسالتهم ينبغي ألا تتجاوز دورها إلي التفتيش في ضمائر المبدعين. لقد عاني المبدعون من هذه الاتهامات الخطيرة التي تحوّلهم في نظر العامة إلي ملحدين أو مستهترين بالأديان السماوية. وفي المجتمع المصري هناك شباب لا يقرأ ولكنه مستعد لأن يحكم ويقتصّ لنفسه ممن أساء إلي الدين، ألم يتعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال علي يد شاب لم يقرأ أعماله؟ وحينما نتحدّث عن العامة فإننا لا نتحدّث عن دين بعينه، والشاب المتطرف المسلم في حالة نجيب محفوظ قد يكون شاباُ مسيحياً متطرفاً في حالة زيدان. الأحداث تتوالي ولكننا لا نتعلم منها. لقد خرج طلاب الأزهر الشريف في مظاهرات غاضبة لمهاجمة الكاتب السوري حيدر حيدر وروايته التي لم يقرأوها "وليمة لأعشاب البحر" لأن أستاذهم قال لهم إنها رواية تزدري الذات الإلهية. لم يعاقب أحد هذا الأستاذ بعد أن زرع بذرة التطرّف في نفوس طلابه الذين صاروا أساتذة الآن، وحينما يكون الأستاذ متطرفاً فما الذي ننتظره منه؟! أصحاب الدعاوي يريدون تربية الأجيال الجديدة علي كراهية الإبداع والمبدعين، والمجتمع الذي يكره الإبداع مجتمع ينتمي إلي العصور المظلمة.. كما أنهم يخلقون نوعاً من الرقيب الداخلي لدي المبدعين أنفسهم. إنهم يريدون أدباً أبيض يخلو من القضايا الحقيقية، ولو استمرت المطاردات السخيفة، وما لم ينتبه العقلاء إلي هذا فإن مصر ستتخلي طواعية عن روحها. المثقفون روح هذه الأمة، روحها التي ستتواري وتختنق بالترويع والإرهاب المتواصلين، وهكذا ستكون الساحة ممهدة لعودة التطرف مجدداً.. لقد قلنا سابقاً إن دور رجال الأزهر يقتصر عند حدود الأزهر ورسالته السامية في التنوير، وإنه ليس من دور رجاله الحكم علي الإبداع، وما ينطبق علي علماء الأزهر ينطبق علي رجال الدين المسيحي، والأعمال الإبداعية ليست كتب دين حتي تحصل مسبقاً علي إذن الأزهر والكنيسة كما يطالب أصحاب الدعاوي في الفترة الأخيرة.. زيدان باحث معروف، وله عشرات التحقيقات في التراث المصري، ولم يصدر عنه ذات مرّة إساءة من أي نوع إلي الدين المسيحي، والحكم علي روايته يتم من خلال نقاد ومبدعين يشبهونه، وهم لا يمكن أبداً أن يصدروا مثل هذا الاتهام الجائر بحقه. المثقفون يحترمون القانون والقضاء، ولكن لا بد من وقفة ليتفق الجميع، المثقفون والقضاة والسياسيون علي رفض محاكمة الإبداع انطلاقاً من فكرة أن مصر منارة الثقافة في العالم العربي، منارة ترفض العودة إلي عصور الانحطاط.