قال تقرير حقوقى اليوم الأربعاء، إنه بعد نحو عام على انطلاق ما عرف إعلاميا ب"الربيع العربى"، يبدو جليا أن الحصاد لم يرق إلى مستوى التضحيات التى قدمتها الشعوب المنتفضة، طلبا للحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. فباستثناء تونس، تبدو الخيارات المتاحة أمام الشعوب المنتفضة، وكأنها تتراوح بين إصلاح محدود للنظام القديم، أو إفساح المجال لهيمنة فصائل الإسلام السياسى على مؤسسات الحكم، وتآكل قواعد الدولة المدنية. وكان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أصدر تقريره السنوى الرابع، والذى يتناول بالرصد والتحليل حالة حقوق الإنسان فى العالم العربى خلال عام 2011، مع التركيز على 12 بلدا هى: مصر وتونس والجزائر والمغرب والعراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين والمملكة السعودية والسودان والأراضى الفلسطينية المحتلة. وقال التقرير، وجهت الانتفاضات الثورية التى نشبت فى عدة بلدان عربية ضربات موجعة إلى نظم الحكم الأبدى والعائلى، وسيناريوهات التوريث، وأزاحت رموزا عاتية للطغيان فى تونس ومصر وليبيا واليمن. كما بات من الصعوبة بمكان أن يجد النظام الدموى فى سوريا مخرجا سياسيا يمنحه مشروعية البقاء فى ظل حمامات الدم، التى صارت تفصله تماما عن شعبه. أكد التقرير أن محاولات إجهاض "الربيع العربى" قد اقترنت بقمع وحشى واسع النطاق، ارتقت الكثير من أشكاله إلى مرتبة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وخاصة فى ليبيا وسوريا ومصر واليمن والبحرين. وتابع، فى مصر ما بعد مبارك، احتكر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة المرحلة الانتقالية، وسعى إلى تقليص أهداف الثورة فى إطار التخلص من بعض رموز الحكم ومخطط توريث السلطة، وتبنى مسارا سياسيا انتقاليا يعمق الانقسامات بين القوى السياسية، ليظل المصريون أسرى لخيارات مرة تفاضل بين استمرار النظام القديم، أو القبول بفاشية دينية تهيمن على مقاليد السلطة، وتسطو على حق المصريين بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم فى كتابة دستورهم. وأرجع التقرير الإخفاقات الكبرى فى حقوق الإنسان خلال المرحلة الانتقالية فى مصر إلى تصاعد وتائر القمع وتطوير أدواته لمواجهة معارضى المجلس العسكرى، وعودة القمع الوحشى للاحتجاجات السلمية، وتزايد الضغوط على وسائط الإعلام المستقلة، والتوسع غير المسبوق فى الهجوم على منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدنى. وأضاف، فى البحرين جرى تطويق الانتفاضة الشعبية وقمعها وسط تواطؤ المجتمع الدولي، فضلا عن الدعم الدبلوماسى والعسكرى من قبل دول مجلس التعاون الخليجى. بينما فى اليمن شكلت المبادرة الخليجية -التى حظيت بدعم الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي- التفافا على تطلعات الثورة الشعبية فى الخلاص الكامل من نظام على عبد الله صالح ومحاسبته على جرائمه. حيث حصنت المبادرة جلاد الشعب اليمنى وكبار معاونيه وأبنائه من المحاسبة، وفرضت نائبه الأول رئيسا مؤقتا عبر انتخابات صورية، يمتنع فيها بموجب هذه المبادرة طرح أى مرشحين منافسين!. ولفت التقرير النظر إلى استمرار إهدار معايير العدالة وتكريس نهج الإفلات من المساءلة والعقاب على انتهاكات حقوق الإنسان، حتى فى البلدان التى أزيحت فيها رموز الحكم التسلطى، مشيرا إلى أن القصاص لأرواح الشهداء فى مصر اصطدم بصعوبات كبرى، تمثلت فى التباطؤ الشديد فى تقديم المتهمين للمحاكمة، والتقاعس عن اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع العبث بالأدلة أو إخفائها، وامتناع الأجهزة الأمنية عن التعاون مع جهات التحقيق، ومحدودية التدابير التى انتهجت للتطهير والإصلاح المؤسسى للمؤسسات الأمنية والقضائية. ونتيجة لذلك آلت الغالبية العظمى من القضايا الخاصة بقتل المتظاهرين إلى تبرئة الضباط المتهمين ومعاونيهم. وعلى الرغم من أن محاكمة الرئيس المخلوع ووزير داخليته انتهت قبل أيام إلى معاقبتهما بالسجن المؤبد، فإن منطوق الحكم اعترف بقصور فادح فى الأدلة، والإخفاق فى التعرف على الفاعلين الأصليين فى جرائم القتل، وهو ما استندت إليه المحكمة فى تبرئة كبار معاونى وزير الداخلية الأسبق. وفى تونس أيضا لم يتم إحراز تقدم ملموس فى المحاسبة على جرائم نظام بن علي، وإن كانت هناك وعود رسمية لانتهاج طريق العدالة الانتقالية، الذى تقتضيه عملية الانتقال الديمقراطى. وأوضح التقرير أن تونس ربما يكون البلد الأكثر حظا للدخول فى عملية جادة للانتقال الديمقراطى. وقد ساعد فى ذلك أن المؤسسة العسكرية فى تونس لم يكن لديها مشروع سياسى، ومن ثم أتيح لتحالف قوى الثورة من الحركات النقابية والحقوقية والسياسية أن تملأ فراغ السلطة، وأن تزيح رموز نظام بن على وأعضاء حزبه من إدارة المرحلة الانتقالية. كما عزز الخطاب المعتدل لحركة "النهضة" الإسلامية من فرص بناء التوافقات الوطنية التى تقتضيها تلك المرحلة. كما اقترنت المرحلة الانتقالية فى تونس بحزمة من التشريعات، التى استهدفت إنهاء القيود على حريات الصحافة والإعلام، وتحرير عمل الجمعيات، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب، ومحاصرة جرائم التعذيب وتغليظ العقوبة عليها. وسجل التقرير تزايدا هائلا للانتهاكات التى تطال المدافعين عن حقوق الإنسان ومنظماتهم، وخاصة فى كل من مصر وسوريا والبحرين. كما تواصل السلطات المغربية ممارسات الاعتقال التعسفى والمحاكمات الجائرة ضد المنظمات الحقوقية بالصحراء الغربية، والقيود المفروضة على دخول ممثلى منظمات حقوقية أجنبية للإقليم الصحراوى للوقوف على الانتهاكات الواقعة به. كما أكد التقرير أن أوضاع حريات التعبير لم تشهد تحسنا فى البلدان الأكثر تأثرا ب"الربيع العربي"، باستثناء تونس، مشيرا إلى أن عددا من البلدان قد شهدت مزيدا من التدهور لحريات التعبير، وعلى وجه الخصوص السودان ولبنان والمملكة السعودية والأراضى الفلسطينية. أوضح التقرير أن رياح "الربيع العربي" لم تقترن بأى تحسن يذكر فى أوضاع الأقليات والحريات الدينية فى العالم العربى. بل على العكس، فالشيعة فى البحرين والمملكة السعودية، نالهم النصيب الأكبر من القمع بحكم انخراطهم بشكل أوسع فى الاحتجاجات أو الهبات الشعبية التى شهدها البلدان. فيما استمرت ممارسات التمييز المنهجى والقمع بحق الأقلية الكردية فى سوريا. وفى مصر تقاعست السلطات عن وضع حد للقيود التعسفية على بناء دور العبادة لغير المسلمين، وأخفقت فى توفير الحماية للأقباط وكنائسهم، مما أدى إلى زيادة حدة الاحتقان والتوترات والمصادمات ذات الطابع الطائفى. فى العراق ظل العنف الدموى يحصد أرواح الآلاف، ليؤكد الإخفاق المزمن للسلطات فى وضع حد لتردى الأوضاع الأمنية، مثلما يظهر أيضا أن الأطراف السياسية بمشاربها المذهبية المختلفة مازالت غير مهيأة للاحتكام إلى قواعد العملية السلمية السياسية. كما ظل أبناء الأقليات المسيحية واليزيدية على وجه الخصوص محلا للاستهداف، عبر هجمات مسلحة تستهدف إجبارهم على النزوح من المناطق التى يتركزون فيها. ورصد التقرير تواصل الانتهاكات الجسيمة فى السودان، بفعل اتساع نطاق الصراعات المسلحة وامتدادها إلى بؤر جديدة. وقد أدى تواصل الهجمات المسلحة على إقليم دارفور إلى نزوح ما يزيد على 350 ألفا من سكانه. فى حين أدى تعثر المفاوضات بين حكومة الخرطوم وحكومة جنوب السودان بشأن المناطق الحدودية المتنازع عليها إلى وقوع هجمات واشتباكات مسلحة فى منطقة أبيى، وإلى تحول جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق إلى ساحة جديدة للصراع المسلح. وامتد تأثير رياح "الربيع العربي" أيضا إلى أراضى السلطة الوطنية الفلسطينية، لتدفع باتجاه إنهاء الانقسام بين طرفى السلطة الفلسطينية، غير أن اتفاق المصالحة لم يسفر حتى الآن عن تغيير جوهرى على صعيد احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، يسمح بوضع حد نهائى للانتهاكات المتبادلة التى يمارسها كل من طرفى السلطة الفلسطينية بحق المحسوبين على الطرف الآخر، مثلما لم يقترن أيضا ببروز إرادة سياسية تقود إلى إنهاء ثنائية السلطة ودمج وإصلاحات المؤسسات الأمنية والقضائية. وعلى صعيد متصل، رصد التقرير تواصل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الشعب الفلسطينى من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلى، سواء من خلال أعمال القصف العسكرى لقطاع غزة، وجرائم الاغتيال والتصفية الجسدية لمن تعتبرهم إسرائيل منخرطين فى أعمال عسكرية ضدها وسياسات العزل العنصري، والحصار والعقاب الجماعى المفروض على سكان غزة للعام الخامس دون انقطاع. واختتم التقرير، كان 2011 هو عام انطلاق كفاح الشعوب فى عدة بلدان عربية من أجل التمتع بالكرامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وبنظم ديمقراطية، بعد أن كان عبء هذا الكفاح فى هذه المنطقة يقع على عاتق أفراد ومنظمات حقوقية وأحزاب وجماعات سياسية. ولكن الطريق مازال طويلا، لكى يحقق هذا الكفاح أهدافه النبيلة.