النساء داخل أسوار سجن النساء بالقناطر أنواع.. منهن المذنبة التي تقضى فترات عقوبة طويلة، ويراودها الأمل في الخروج واستئناف حياتها مرة أخرى، وبينهن المظلومة التي تمر عليها الدقائق والساعات وكأنها عُمر بأكمله.. ومنهن المحكوم عليها بالإعدام وتنتظر الموت بين لحظة وأخرى، وهناك كل من الأم والحامل التي تتمنى ألا يخرج وليدها إلى النور داخل أسوار السجن.. وبين هؤلاء جميعا تعيش نساء أخريات، ليسن مجرمات أو مذنبات، وإنما هن موظفات تابعات لوزارة الداخلية، مهمتهن الأساسية حراسة السجينات ومراقبتهن، سواء في داخل الزنازين، أو في أوقات «الفسحة» وفى بعض الأحيان رعاية المريضات منهن.. هؤلاء هن السجانات، ورغم أنهن يؤدين عملا عاديا يتقاضين عليه أجرًا مثل أي موظف في أي جهة حكومية أخرى، إلا أن صورتهن ارتبطت في أذهان الجميع بصورة المرأة القبيحة حادة الملامح غليظة القلب، التي تعامل كل من حولها بقسوة وعنف، وقد ساعد في ترسيخ هذه الصورة، عدد من الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية، التي تختار سيدة «قبيحة قاسية» لتقوم بدور السجانة.. وفى بعض الأحيان تظهرهن تلك الأعمال الفنية، وكأنهن مذنبات ومشاركات في ارتكاب جرائم داخل السجن مثل تهريب المخدرات والممنوعات للسجينات. محقق «فيتو» قرر أن يلقى الضوء وبشكل محايد، على حياة هذه الفئة من البشر، ويستمع لهن ويرسم بالكلمة والصورة أدق تفاصيل حياتهن داخل السجن وخارجه، وفى سبيل ذلك انتقل إلى عزبة «السجن» بمركز القناطر القناطر الخيرية، وهى العزبة المخصصة لسكن «سجَانات» سجن النساء بالقناطر، والتقى عددا منهن وفى السطور التالية يرصد ما توصل إليه: كانت عقارب الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة صباحا، عندما وصل المحقق إلى عزبة «السجن».. وما إن وطأت قدماه أرض العزبة، حتى لاحظ أنها شبه خالية من السكان، وجميع بيوتها مكونة من طابق واحد وشبه متهدمة وكأنها مقابر، ولا يوجد بها صرف صحى، وتعتمد على «الطرنشات».. وبعد جولة قصيرة في شوارع العزبة الضيقة، التقى المحقق بإحدى السيدات، وسألها عن سر خلو العزبة من الناس، فأجابت: « إحنا لسة في أول النهار، وكل السجَانات في الشغل»، وأضافت أن معظم أهل العزبة يعملون في الشرطة، وجميع النساء يعملن في سجن القناطر للسيدات، وأن ابنتها تعمل شرطية في قسم الأزبكية، وكذلك اثنان آخران من أفراد عائلتها يعملان في مواقع شرطية أخرى، وهى سعيدة بانتماء ابنتها وأقاربها لوزارة الداخلية، التي تبذل جهودا كبيرة في مكافحة الجريمة ومحاربة الإرهاب». وأوضحت: « ابنتى سعيدة جدا بعملها شرطية في وزارة الداخلية، لدرجة أنها رفضت الزواج بكل من تقدموا لخطبتها، وفضلت عملها على حياتها الخاصة، وذلك خشية ألا تستطيع التوفيق بين عملها وبيتها وزوجها، ويمكن القول إنها خشيت أن تمر بتجربة الطلاق بسبب كثرة الخلافات الزوجية، والمآسى العائلية التي تشاهدها كل يوم في قسم الشرطة». واصل المحقق جولته في العزبة شبه الخالية من الناس، والتقى برجل كان يجلس تحت «تكعيبة عنب»، وسأله عن العزبة وأحوالها، فقال: « العزبة تضم عددا كبيرا من البيوت المبنية على نفس النسق، فجميعها من طابق واحد ومكونة من حجرتين فقط وحمام صغير ومطبخ، وهى مملوكة لوزارة الداخلية، ولا يسمح بالإقامة فيها سوى للعاملات في سجن النساء بالقناطر، وفى حالة خروجها على المعاش تترك المنزل فورا ليتم تسكينه لغيرها من الموظفات الجدد.. وهذه البيوت كانت استراحات للجنود الإنجليز، بناها البريطانيون أثناء احتلالهم لمصر، ثم خصصتها الدولة لقطاع السجون بوزارة الداخلية، الذي خصصه بدوره كسكن للسجانات نظرا لقربها من سجن القناطر، وكل واحدة تدفع 25 جنيها كإيجار رمزى للوحدة».. وأكد الرجل أنه يعمل في وزارة الزراعة، وله منزل مقام على أملاك الدولة ولا يخضع للسجون، وأن ابنته تعمل سجانة في سجن القناطر. ظل المحقق يتجول في العزبة الصغيرة، ويرصد بالكاميرا ملامح البؤس التي يعيشها ساكنو تلك البيوت المتهالكة، حتى بدأت السجانات في العودة من عملهن.. التقى ببعضهن وحاول إجراء حوارات حول طبيعة عملهن وأساليب معيشتهن، غير أنهن رفضن بشدة وأكدن أن وسائل الإعلام، أظهرتهن في صورة غير حقيقية، وشوهتهن بشكل كبير، ثم جاء مسلسل «سجن النساء» لنيللى كريم، ليضيف مزيدا من التشويه لصورتهن أمام الناس.. وبعد إلحاح شديد وبحث طويل، التقى المحقق بإحدى السجانات ولكنها خرجت إلى المعاش منذ فترة قليلة.. تحدث معها داخل منزلها المتواضع وسألها عن تفاصيل رحلتها داخل سجن النساء فقالت: «اسمى محاسن.. عملت في سجن النساء لأكثر من 24 سنة، كنت خلالها مثالا للموظفة المجتهدة، وكثيرا ما أشاد بى رؤسائى في العمل وحصلت على شهادات تقدير، وبعد كل هذه المدة أصبت بمرض السكر، ثم تفاقم الوضع وتعرضت لجرح في قدمى، وعالجته كثيرا ولكنه لم يستجب للعلاج، وانتهى الأمر ببتر ساقى.. وهنا خيرنى المسئولون في الداخلية بين أن استمر في العمل مع التخفيف من أعبائى الوظيفية، وبين أن أخرج إلى المعاش المبكر، فاخترت أن أخرج معاشا.. وبعد ذلك فوجئت بإدارة السجن تطالبنى بإخلاء منزلى هذا، وحجزت نصف مستحقاتى المالية لحين الخروج من المنزل.. قدمت طلبا للوزارة حتى تسمح لى بالبقاء في المنزل، حتى أكون بجوار شقيقتى التي تعمل سجانة أيضا، وتقوم على خدمتى ولكن طلبى قوبل بالرفض، وكل ما أتمناه هو أن تتركنى الوزارة في منزلى، أو توفر لى مكانا أعيش فيه، فمن غير المعقول وأنا بحالتى هذه أن أجد نفسى في الشارع بعد كل تلك السنوات التي قضيتها في خدمة الداخلية، وفضلت عملى على حياتى الخاصة لدرجة أننى لم أنجب، فتزوج زوجى بامرأة أخرى وأهملنى بسبب طبيعة عملى». وعن ذكرياتها في العمل داخل السجن قالت: «خلال مدة خدمتى الطويلة، تعاملت مع مئات المسجونات، بينهن متهمات في قضايا آداب، وسرقة، وقتل، وأموال عامة وغيرها.. ومنهن محكوم عليهن بالمؤبد والإعدام، وتعاملت مع سيدات أعمال تورطن في قضايا متنوعة، وكانت طبيعة عملى تقتضى أن استمع لهن جميعا، حتى يفضفضن ويخرجن ما في صدورهن كنوع من العلاج والتهيئة النفسية، ومن أخلاقيات عملى التي ما زلت أحرص عليها رغم خروجى، ألا أتحدث عن أسرار السجينات، وكل ما أستطيع أن أقوله إن سجن النساء مليء بالمآسى الإنسانية والحكايات المثيرة، وقد أثرت تلك الحكايات على كثيرا». أما «نبوية» وهى إحدى السجانات العاملات في وزارة الداخلية حتى الآن، فتحدثت عن علاقتها بسجن النساء بالقناطر قائلة: «أعمل في السجن منذ 17 سنة تقريبا، وأقيم في السكن الذي خصصته لى الوزارة بعزبة «السجن» مع زوجى وبناتى.. وقبل التحاقى بالعمل في السجن، خضت عدة دورات تدريبية، على طريقة التعامل مع المسجونات، وحقوقهن وواجباتهن.. ومن مهام السجانة الحفاظ على حياة المسجونات، ورعايتهن رعاية كاملة، ومرافقتهن أثناء إنهاء إجراءات احتجازهن أو الإفراج عنهن، ومن مهامها أيضا تأهيل المسجونة نفسيا، ومساعدتها على قضاء فترة العقوبة في هدوء، ودون أي مشاكل قد تؤثر عليها، ومساعدة الراغبات منهن في تعلم حرفة أو القراءة والكتابة، وتوفير الأجواء الملائمة لذلك». وعن أصعب اللحظات والمواقف التي تمر بها في السجن قالت: «أصعب اللحظات عندما تلد إحدى المسجونات ويتم نقلها إلى عنبر مخصص للأمهات، وتظل مع صغيرها لفترة معينة ثم تأتى لحظة انتزاع الطفل منها وإيداعه إحدى دور الرعاية أو تسليمه لأقاربه خارج السجن.. في هذه اللحظة أشعر بقسوة حرمان الأم من وليدها».. نبوية أضافت أنها تشعر بالفخر لعملها في وزارة الداخلية، وعندما تعود إلى منزلها وتخلع ملابس السجن، فإنها تتحول إلى أم مصرية أصيلة ترعى منزلها وزوجها وأولادها.. وأضافت: «وزارة الداخلية تقدم لنا كل أوجه الرعاية الصحية، وأنا شخصيا أصبت بمرض وخضعت لإجراء جراحة خطيرة، بلغت تكلفتها نحو 40 ألف جنيه، تحملتها الوزارة كاملة في مستشفى الشرطة، كما أن رؤسائى اهتموا بحالتى ووفروا لى كل أشكال الرعاية».