خلف البراءة ربما تجد مساحات من الغموض الذى يُنبت بذورا من الشك تطاردك وتحوم حولك، وتأتى لقطة النهاية وهى لا تحمل إجابة قاطعة، ولكن تطرح هى أيضا علامات استفهام جديدة. يجمع فيلم الافتتاح الكندى فى مهرجان أبو ظبى «السيد لزهر» بين السحر والغموض، متمثلا فى قضية الانتحار والإحساس بالغربة فى المنفى الإجبارى للبطل الجزائرى، ورؤية إنسانية تحوط العالم كله، حيث تتوالد الأسئلة التى لا ندرى حقيقة إجابات قاطعة عنها، ويمنحها الغموض تفسيرات متعددة بل وأسئلة ما إن يخفت واحد حتى يتجسد أمامنا الثانى، إنها الطبيعة البشرية تختلف حدتها ودرجتها بين إنسان وآخر، إلا أنها تفضل للمسكوت عنه أن يعيش فى طىّ الكتمان حتى لا يفضح المستور، ولهذا يبدو سؤال بطل الفيلم بشير لزهر لتلاميذه عن الدودة واليرقة والشرنقة والفراشة، هى تنويعات على حقيقة واحدة مهما تعددت الأشكال. كما أنه فى حصة التعبير لا يكتفى بأن يصحح ورق الإجابات لتلاميذه، بل يطلب منهم أن يصححوا هم أيضا ورقته، كلنا أمام معضلة الحياة تلاميذ.. «السيد لزهر» يؤدى دوره بألَق ودفء الممثل الجزائرى محمد فلاق. الكل لديه ما لا يريد إعلانه ليس فقط لأنه يخشى منه، ولكن ربما لأنه لا يدرى حقيقة تفاصيل ما يجرى ودوافعه وأسبابه الحقيقية، ولهذا نرجئ كشف الحقيقة بحجج مختلفة، بينما السبب الذى لا نعلنه عادة هو أننا لا نريد المواجهة، ولكن قبل أن نتواصل مع أحداث الفيلم أعرض عليكم أولا كيف شاهدناه. سينما فى الهواء الطلق كان أحد الأسباب الرئيسية التى رأينا خلالها افتتاحا سينمائيا مختلفا لمهرجان «أبوظبى».. ربما لم يساعد الجو الحار نسبيا على الاستمتاع بالحالة العامة للحفل، كما أن الكراسى التى وضعت فى دار العرض المطلة على الشاطئ لم تكن ملائمة لكى نتحملها على مدى يقترب من الساعات الأربع، هذا لو أضفنا زمن تقديم الحفل، لأن هناك تأخيرا فى الموعد المحدد لبدء الحفل زاد على ساعة زمنية.. تردد أن بعض النجوم فى أثناء صعودهم على السجادة الحمراء، تلكؤوا فى السير للوقوف دقائق أكثر أمام الشاشات وعدسات المصورين.. حتى لو كان ذلك صحيحا فإن هذه تظل مسؤولية منظمى المهرجان! الفيلم يحض على المعايشة الكاملة مع الشريط السينمائى، بينما سينما الشاطئ تحتاج إلى نوعيات أخرى تميل إلى المرح والفكاهة ولا تتطلب إلا القليل من التأمل، فهو فيلم لدار عرض جدرانها تحمى أفكارك لتتوحد مع حالة الفيلم.. ورغم ذلك فلقد تغلبت على كل الأجواء غير الملائمة للمشاهدة، لأن الفيلم لديه ما يجذب ويحض على أن تتماهى معه.. البداية ساخنة جريمة انتحار حيث نرى بعيون الطفل المُعلمة وقد شنقت نفسها فى حجرة التدريس، بعد أن اختارت هذا الموعد والمكان فى أثناء احتفال أقامته المدرسة للطلبة.. وتأتى الأسئلة متلاحقة لو أن المعلمة أرادت التخلص من حياتها فلماذا تختار الانتحار أمام تلاميذها؟ هل شعرت بفداحة جرم ما ارتكبته؟ هل مثلا تورطت فى علاقة مع أحد التلاميذ خصوصا أن هذا التلميذ ظل محتفظا بصورة شخصية لها وشاهدوه وهى تعانقه؟ يُطرح الاتهام أو ظلال له تتناثر هنا وهناك، وبعد ذلك تتوالد الإجابات أو التخمينات وربما الاتهامات، وبنفس حالة الهمس فى طرح السؤال الدرامى وتقديم الإجابة عنه.. يعانق الأستاذ لزهر فى اللقطة النهائية إحدى تلميذاته التى ينعتها بالمفضلة، مثلما عانقت المعلمة التى انتحرت تلميذا لها عناق أم لابنها، ولكن هناك من أضاف أشياء خارجة عن النص والمنطق والأخلاق! لزهر يريد أن يعرف الإجابة، هو ليست لديه اتهامات مسبقة، ولكنها تساؤلات مشروعة للأستاذة التى اختارت أن تترك فى وجدان تلاميذها صورة لا تمحى من ذاكرتهم.. أمام إصرار الأستاذ على معرفة الإجابة تبدأ مديرة المدرسة فى محاولة لكى تكشف هى أيضا سر الأستاذ.. إنه ينتظر حق اللجوء السياسى فى كندا بعد أن اضطر إلى مغادرة بلده الجزائر فى التسعينيات، فى أثناء سيطرة الإسلاميين المتطرفين على مقدرات البلد وإرهابهم، مما أدى إلى إضرام النيران فى بيته وإلى انتحار ابنته خشية الاحتراق.. يحصل الأستاذ على حق اللجوء السياسى بعد أن تأكدت سلطات التحقيق أنه لا توجد شبهة جنائية فى انتحار الابنة.. لم يقدم المخرج وكاتب السيناريو «فيليب فالاردو» إجابات قاطعة عن أسباب انتحار المعلمة، لكن أليس من حقها أن تعانق تلميذها ببراءة؟