مسجد أبو الجود التابع للإخوان المسلمين فى أسيوط يقع على بعد كيلومتر واحد من مسجد الجماعة الإسلامية. فى ذلك المساء من أواخر الثمانينيات طلب منا قادتنا فى الجماعة الإسلامية أن نصلى العشاء فيه. وكان هذا غريبا. لم أصل فى مسجد الإخوان قط ولو بالصدفة. وهذا المساء بالذات هو موعد اللقاء الأسبوعى لهم، ووجودنا هناك سيكون مريبا بالنظر إلى توتر علاقتنا بهم، اللهم إلا لو كان لمصالحة. لكننى ذهبت. فنحن، كمشاة، نسمع ونطيع أمراءنا، عرفنا الغرض أم لم نعرفه. وفى هذه الحالة بالتحديد رفض الأخ المسؤول الإفصاح عن الغرض قائلا إنها معلومات سرية (لا تستعجب التقارب بين فكر الجماعات الغيبية والفكر العسكرى). ذهبت وكان الدكتور عصام العريان خطيبا. فهمت سبب الزيارة بعدها، وإن كنت توقعته. الإخوان المسلمون دأبوا على توزيع بيانات موقعة باسم «الجماعة الإسلامية»، وهذا أحدث بلبلة وسط الناس الذين يتلقون بيانات من جهتين مختلفتين، برأيين مختلفين، لكن التوقيع واحد. معارك كثيرة حدثت بين شباب الإخوان وبيننا فى ذلك الوقت، معارك حقيقية باللكمات والضرب المبرح، وفى بعض الأحيان باستخدام أسلحة بيضاء. بالنسبة إلينا كان تصرف الإخوان محاولة لابتلاعنا. وبالنسبة إلى شباب الإخوان الذين حرموا شرف الدخول فى مصادمات مع الأمن -ترضى كبرياءهم كمعارضين للسلطة- وجدوا فى الصدام معنا ذلك العنصر «الملحمى» الغائب من مسيرتهم كمعارضين. كان بعض قادتهم حينها أعضاء فى مجلس الشعب وكتابا معروفين فى الصحف، والجماعة انتقلت من التحالف مع حزب الوفد إلى «ركوب» حزب العمل «الاشتراكى» (أى والله) وتوجيه لجامه. وصارت جريدته، «الشعب»، صوتا للإخوان للمسلمين. كنا فى مسجد أبو الجود إذن لكى نتحدى عصام العريان لو قال كلمة واحدة عن أن الجماعة الإسلامية الأصلية ليست أكثر من فصيل من الإخوان. وكان الإخوة الكبار (اللى فى العشرينيات) مسلحين بالجنازير والمطاوى، وكان أحدهم مستعدا بميكروفون يدوى، أما نحن (إخوة ثانوى) فكنا مسلحين بما تيسر، لأننا لم نكن نعلم تماما مهمتنا هناك. مرت الليلة ولم يفتح عصام العريان فمه بكلمة واحدة يدعى فيها أن الجماعة الإسلامية فرع من الإخوان. لكن الخناقات حول الموضوع نفسه (وليس هذا مجال تفصيل خلفيته التاريخية) استمرت فى الجامعة، وتأكدنا أن الإخوان إنما يفعلون ذلك لنزع الشرعية عنا، هدية للنظام. والدليل أن جماعة الإخوان المسلمين توقفت عن إصدار بيانات باسمنا حين تمكن نظام مبارك من الجماعة الإسلامية -الحقيقية- تمكنا تاما ماحقا، فى أعقاب حرب تحرير الكويت. فى تلك الأثناء، حدثت أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر»، وعلى الفورر حظرت السلطة حزب العمل وجريدته، ومن ثم فقد الإخوان المسلمون بوقهم الإعلامى. وتحقق فيهم ما حذرناهم منه «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض». الشخص الذى عمره ثلاثون عاما الآن، لا يكاد يعرف شيئا عن هذا التاريخ القريب، لأنه كان أصغر من أن يعيه، فما بالكم بمن فى العشرينيات أو أقل؟! لكننى أعدت التذكير به لأقول لشباب الإخوان -الذين أرجو أن لا يخلطوا بين انتقادى الجماعة وتقديرى الشخصى لمن أعرفه منهم- إن عليهم أن يحاذروا من الوقوع فى نفس الخطأ. أعلم أن بعض قيادات الإخوان يرون فى القضاء على حركات جماهيرية قادرة على الوصول إلى الناس نصرا مرحليا لهم، يجعلهم جماعة «الشارع» الوحيدة، تماما كما فعلوا معنا من قبل، وما يفعلون مع حركة «6 أبريل» الآن. لكنهم مخطئون. السبب الوحيد الذى يجعل السلطة الحالية على وفاق معكم هو وجود آخرين. اعتنقوا ما تشاؤون من عقيدة، لكن فى الممارسة السياسية علينا جميعا أن نكون أصحاب مبادئ. محسوبون على الإخوان من بدأوا التخوين العلنى لجماعة «6 أبريل»، وإشاعة أن جماعات تلقت أموالا للإنفاق على إغلاق قناة السويس، دون أن يقدموا دليلا لجهاز الادعاء القضائى. وهذا تصرف يشبه تصرف السلطة. لكن حين يخرج من فصيل سياسى كبير فإنه ليس فى مصلحة مصر ولا حتى فى مصلحة الإخوان المسلمين.