«الفتوة الخفافى» هو من كان يعمل فى كباريهات القاهرة التحتية كبودى جارد لصاحب الملهى أو بنات الليل، وهو مكلف أيضا بحماية الراقصة وطبالها المتمرس، الذى غالبا ما يكون هو نفسه مدير أعمالها. وقد جرت العادة على أن يكون الفتوة الخفافى من خريجى السجون فى قضايا الآداب أو المخدرات، أو من مخبرى المباحث الذين يتقرر الاستغناء عن خدماتهم لأسباب تفضل جميع الأطراف عدم الخوض فيها. أحيانا يلعب الطبال الدورين معا. الفتوة الآخر غير الخفافى، هو من يفرض قانونه على الناس فى الحوارى الفقيرة التى لا سند لها، وعلى ضباط الكراكون الذين كثيرا ما يحتاجون إليه فى بعض المهام القذرة. لكن تلك حكاية أخرى يطول شرحها. المهم الآن هو أن كل النصوص التى تناولت خبايا القاهرة فى تلك الفترة تشير إلى أن الوضع استمر هكذا منذ عشرينيات القرن الماضى، حتى منتصف خمسينياته، وأن بعض التجار أو المسؤولين استعانوا بالفتوة الخفافى لتصفية الحسابات فى ما بينهم، أو ضد العشيقات اللائى كن يتنقلن بين أحضان هذا وذاك دون سابق إنذار، ولا تزال ذاكرة المصريين تحتفظ منذ عامين -أو أكثر قليلا- بتفاصيل جريمة قتل بالأسلوب التقليدى لكباريهات القاهرة التحتية. إلا أن الأمر شهد إجمالا منذ تلك المرحلة مجموعة من التحولات النوعية المؤثرة. أخذت كباريهات القاهرة التحتية تختفى بالتدريج، لتظهر بدلا منها الملاهى الكبرى، التى يملكها أو يديرها -مباشرة أو بالوكالة- أصحاب النفوذ. الأمر الذى سرعان ما أدى إلى انحسار فرص العمل بالنسبة إلى سلالة الفتوة الخفافى التى بدأت فى الانقراض من على خريطة القاهرة الليلية. ولم يمض وقت طويل حتى فوجئت القاهرة بالفتوة الخفافى يتسلل بأعداد متزايدة إلى ساحة الإعلام. حدث هذا من الأبواب الخلفية على مدى عقدين أو ثلاثة. امتلأت بهم قنوات المخلوع وصحفه. شملتهم قيادات الحزب المنحل والحكومة ورجال الأعمال بعين الرعاية، وكانوا وثيقى الصلة على الدوام بأجهزة الأمن. المظهر الخارجى تغير إلى حد ما، أصبح الفتوة الخفافى مُهَندما على طريقة السماسرة أو مندوبى المبيعات. لكن التركيبة الداخلية ظلت كما هى لا تتغير، لم يعد يعمل كبودى جارد لصاحب الملهى أو بنات الليل، ولا صار من مهماته الأساسية حماية الراقصة وطبالها، أو تشويه وجوه أعداء التجار أو المسؤولين أو العشيقات بماء النار. الأدوات المستخدمة طرأت عليها بعض التعديلات الطفيفة. الكلمات الجارحة لعبت دور المطاوى، بينما حل الخوض فى أعراض كل من يتصدون إلى الديكتاتورية أو التوريث أو الفساد مكان الجنازير. الشتائم التى لا تليق إلا بكباريهات القاهرة التحتية، أو توزيع الاتهامات جزافا على الشرفاء، كحكاية الأجندات الخارجية، أو الرغبة فى زعزعة استقرار البلد، جاءت بدلا من السنج أو البونية الحديد أو رقبة الإزازة. لا شىء تغير تقريبا فى الفتوة الخفافى بعد 25 يناير. احتفظ بنفس اليونيفورم البغيض الذى اختارته له زبانية النظام. بل إن الذين حاولوا أن يختلفوا قليلا عن الآخرين، سقطوا فى قبضة نوع من النيولوك فاقع الألوان، على طريقة كباريهات القاهرة التحتية. الذين حاولوا القفز من سفينة النظام البائد حين تأكد أنها ذاهبة إلى القاع لا محالة، غرقوا فى المستنقع المتعفن الذى أسهموا بنصيب الأسد فى صنعه بترديهم الأخلاقى. لا شىء تغير تقريبا بعد 25 يناير، باستثناء أن الذين عاشوا أعواما تحت أقدام الديكتاتور المجبر على التنحى ونجليه، أصبحوا من يومها يبحثون عن أقدام جديدة يحتمون بها من نظرة الاحتقار فى عيون المصريين. لا شىء تغير تقريبا بعد الثورة، فالذين كانوا قبل 25 يناير يناضلون ضد الديكتاتورية والفساد والتعذيب والنهب المنظم لثروات البلد، هم أنفسهم من يناضلون الآن لكى لا تعيش مصر أياما بشعة كتلك، والذين كانوا يزيفون الوعى الشعبى العام بتلال الأكاذيب، هم أنفسهم من يتملقون بمذلة العبيد السادة الجدد. الذين كانوا يتساءلون: فين الثورة دى؟ شارع النيل أهه قدامكو فاضى. هم أنفسهم من يتساءلون اليوم: فين الفلول دى؟ مفيش حاجة اسمها ثورة مضادة. الحقيقة سيعرفونها إذا نظروا فى المرآة. صارت لدينا طائفتان من البلطجية. الأولى تروع الناس فى الشوارع، والثانية لا تتوقف عن إنتاج المواد السامة التى تلوث بالأكاذيب سماء الوطن. أيهما أخطر من الأخرى؟ لست فى الحقيقة متأكدا، الثابت هو أن النوعين صنعتهما مباحث أمن الدولة. سلالة الفتوة الخفافى التى تسللت فى غفلة من الزمن إلى ساحات الإعلام، إما أنها جاهلة بأبسط القواعد المهنية المتعارف عليها دوليا، مع مراعاة أن الجهل بطبيعة الدور الإعلامى فى وطن عانى طويلا من الخداع كمصر، لا يعفيها من المسؤولية، وإما أنها تدعى الجهل لتبرر خنوعها المخجل تحت حذاء الحاكم. ما أعرفه هو أن الإعلامى لكى يعلم «بضم الياء وكسر اللام»، لابد أولا أن يعلم «بفتح الياء واللام». إحدى أفظع الخرافات التى تروج لها سلالة الفتوة الخفافى بكل الوسائل، التى تزعجنى أنا على المستوى الشخصى كثيرا، هى تلك التى مؤداها أننا جميعا مصريون: الجناة والمجنى عليهم، وأننا فى مركب واحد.. خطأ شائع أو أكذوبة لا يملون تكرارها. طبعا كلنا مصريون: القاتل مصرى والضحية مصرى، اللص مصرى والمنهوب مصرى، الديكتاتور مصرى والمهدرة كرامته مصرى، لكننا لسنا فى مركب واحد. إحنا فى مركب تانية. مش ممكن نركب مع القاتل واللص والسفاح والديكتاتور ومصاص الدماء والفتوة الخفافى نفس المركب، ولا حنسمح ليهم يركبوا معانا. ثورة 25 يناير عملت مركبها الخاص. لا حنركب معاهم، ولا حنسيبهم يركبوا معانا. احنا سكّتنا مش واحدة. مركب 25 يناير رايحة المستقبل، ومركبهم مالهاش إلا طريق واحد: على طرة.