يبدو المصريون الآن كما لو أنهم أغراب أمام أنفسهم، فالفوضى التى يتصرفون بها فى حياتهم -فى الشارع والعمل، وفى كل مكان تقريبا- أصابتهم بنوع من الفزع، فالناس فى حالة عصبية شديدة، متوترون قلقون متأهبون دائما للصدام والخناق وعدم التسامح، فالمستقبل الآمن غامض، لا يعرفون ملامحه، ولا يستشرفون أفقه، ولا أول خطوة فى الطريق إليه. لكنهم فى الوقت نفسه لم يفقدوا الأمل وراحوا يتساءلون: ماذا حدث لنا؟، أين ذهبت أخلاق أولاد البلد؟! وابن البلد تعبير خاص نحته أهل القاهرة بعد أن احتل العثمانيون مصر بفترة غير قليلة، نحتوه فى مواجهة الأجانب أصحاب الامتيازات سواء الأتراك أو المماليك، الذين كانوا يأخذون خير البلد دون أهلها ويتعالون على ناسها، وبمرور الزمن وفعل الأحداث والحوادث اكتسب الوصف معانى نفسية وأخلاقية جديدة ترادف البشاشة والجدعنة والشهامة والمروءة وأداء الواجب والتسامح وحب الناس.. إلخ. وكنا إلى حد كبير «أولاد بلد» بجد.. لكن تحت سيف الزحام ولقمة العيش المراوغة وانكماش فرص الحياة الكريمة وبطء التنمية وطغيان ثقافة الفساد، توارت تلك الصفات خجلا أو دخلت فى سبات عميق أو هجرتنا إلى داخل أنفسنا، كما لو أن المناخ المحيط بنا أو الذى صنعناه حولنا لم يعد مناسبا لنموها، وإذا أردنا استعادتها من كهفها البعيد إلى سلوكياتنا لا نستطيع، فالتربة جفت وتشققت وبارت أو حدث فيها تجريف ولم تعد صالحة لنثر بذور هذه الصفات فيها مجددا إلا بعد عمليات استصلاح نفسى وسياسى واجتماعى كبيرة.. وإن كانت لها بقايا.. والعيب ليس فى الناس كما يتهمهم البعض ويحملونهم المسؤولية، فالناس -فى كل الدنيا وفى كل زمان- على دين «كبارهم»، ويمشون على أطراف السكة التى مهدها أصحاب الرأى والنفوذ والثروة فيهم، ويعيشون حسب «الظروف» المتاحة وقوانينها. ولفترة طويلة جدا سلم الناس فى مصر أمور حياتهم من الألف إلى الياء إلى السلطة، وارتضوا بالمعادلة غير المتكافئة فى العلاقة بينهم وبينها.. هم فى واد والسلطة بكل أشكالها فى واد آخر، بشرط أن توفر لهم الحد الأدنى من مستوى المعيشة. لكن السلطة، وهذا حال أى سلطة مطلقة، لا تفكر فى الناس إلا بالقدر الذى يضمن بقاء الأوضاع على ما هو عليه، ويظل رجالها يثبتون هذه الأوضاع بكل السبل الممكنة، وبالطبع على حساب الناس الذين تتدهور أحوالهم بالضرورة! وقطعا حين تحبس الناس فى عربة أمسكَ بها حريق، أو تجمعهم فى بيت ضربه زلزال، أو تحشرهم فى مدن مكدسة أغلبها عشوائيات فلا تنتظر منهم أن يتصرفوا بأسلوب مهذب أنيق مثل سى محمد «عبد الوهاب» فى أفلامه الرومانسية القديمة، فمن المؤكد أن ينحرفوا إلى سلوك البلطجى زكى جمعة فى السلخانة أو إلى عنف ريا وسكينة فى حى اللبان. فقانون الواجب والجدعنة والتسامح والتهذيب يختفى ويحل محله قانون معروف من أيام سيدنا نوح هو: أنا ومن بعدى الطوفان! ومن الطبيعى إلى حد ما أن ينهار أجمل ما فى الإنسان من قيم ونبل، ويطفو عليه أقبح صفاته، أى ينقلب الإنسان إلى كائن بشرى مختلف يمكن أن نسميه «كائن الأزمة»، يحمل فى وجدانه وعقله كل عناصر الأزمة وسيئاتها، فينتج تصرفات طفيلية يتصور أنها جسر عبوره إلى ضفة الأمان منها! فقط تغير الناس كما لو أنهم ولدوا من جديد، خلال الثورة، من 25 يناير إلى 11 فبراير، عادت إليهم أخلاق أولاد البلد فى ميادين التحرير والأربعين والقائد إبراهيم وعشرات الميادين من أسوان إلى مطروح، فالهدف واضح والطريق معروف والحلم موجود والأمل فارض أجنحته على الكل. وبعد أن رجع المصريون إلى بيوتهم بعد أن أتموا مهمة التخلص من الرئيس رمز السلطة الأكبر، لم تحاول السلطة ولا التيارات السياسية التى تسعى إلى وراثة امتيازات الحزب الوطنى المنحل أن تستثمر الطاقات المتفجرة، ودفعت بهم إلى الطرق القديمة والأساليب القديمة، فكانت الفوضى فى السلوكيات والتصرفات هى رد الفعل الطبيعى. لكن أيضا تظل أخلاق «أولاد البلد» ساكنة تحت جلودنا.. إلى حين ميسرة!