نحن الآن فى العام السادس من الهجرة، قوة المسلمين وسطوتهم وعددهم فى ازدياد مستمر، ينتقلون من فرَج إلى فرَج ومن نصر إلى نصر مؤيد من الله، يشعر المسلمون أن فتح الله عليهم آت، يعيشون فى المدينة، ولكن جزءا من أرواحهم ما زالت فى مكة المشركة، الوطن وذكريات الصبا والكهولة. وهنا يخرج عليهم رسول الله برؤيا، رأى فيها أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، تعمّ الفرحة المسلمين لأنهم يعرفون أن رؤيا رسول الله حق.. أخيرا اقتربت ساعة اللقاء بوطنهم الحبيب، يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وأربعمئة مسلم إلى مكة، يعرف المشركون، ويتأزم الموقف، يبعث كل فريق برسله للآخر فلا يتفقان، وهنا تبعث مكة آخر الأمر سهيل بن عمرو لعقد صلح مع النبى، وبدأ صلح الحديبية. وشروط الصلح لمن يراها برؤية سطحية كانت مجحفة بشدة للمسلمين، فهذا شرط أن يعود الرسول ومن معه إلى المدينة ولا يعتمرون هذا العام، وهو امتثال لرغبة المشركين، وهذا شرط أن يرد الرسول أى قرشى يأتى إليه مسلما دون إذن وليه، بينما لا ترد قريش أى مسلم يأتيها.. وهو شرط مجحف آخر.. بالإضافة إلى منع الحرب بين الطرفين عشر سنوات، وترك الحرية للقبائل لتدخل فى عهد مع قريش أو النبى والحفاظ على هذه العهود. لا يمكن بمفهومنا البشرى أن تكون هذه شروطا يوافق عليها نبى تدِين له الأرض يوما بعد يوم، وينتصر فى كل معركة تلو الأخرى، حتى إن صحابيا جليلا مثل عمر بن الخطاب يشك، وتهتز ثقته، ويسأل النبى مذهولا: يا رسول الله ألست نبى الله؟ قال: بلى، فقال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، فقال عمر: علامَ نعطى الدنية فى ديننا؟ ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إنى رسول الله، وهو ناصرى، ولست أعصيه. فرد عمر مذكرا رسول الله برؤياه: ألست كنت تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ فقال عمر: لا، فقال رسول الله مبشرا بالفتح: فإنك آتيه ومطوّف به. ليس هذا وفقط من التنازلات، وإنما لحظة كتابة الصلح، يجلس رسول الله وسهيل بن عمرو، والكاتب هو على بن أبى طالب، ويرفض سهيل أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وطلب أن يكتب: باسمك اللهم، فيوافق رسول الله، ويرفض أن يكتب: محمد رسول الله، قائلا: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، بل اكتب محمد بن عبد الله، فيقول رسول الله: والله إنى رسول الله ولو كذبتمونى، اكتب محمد بن عبد الله.. ما هذه التنازلات لنبى كريم أمام مشرك لئيم! ولماذا لا يرفض الرسول الصلح ويذهب فيقاتل أهل مكة؟ ولماذا يخاطر رسول الله ويضع امتثال الصحابة لأوامره فى كفة ورغبتهم فى دخول مكة فى كفة وهو يعلم شوقهم لدخولها؟ الإجابة تتلخص فى كلمتين: قائد حكيم.. يعرف متى يتنازل فى أمور شكلية بسيطة للوصول إلى مآرب هامة يعلى بها دين الله.. يعلم أنه استفاد كثيرا من هذا الصلح، اعتراف واضح صريح من أهل مكة بالمسلمين وبقوة رسول الله وإلا ما وقعوا صلحا معه، وهذا ساعد فى انتشار الإسلام فى المنطقة، وعودة مهاجرى الحبشة بعد ما أمنوا للأوضاع فى المدينة وغيرها من المزايا. إن رسول الله بعظمته وقوته ووحى الله له، تنازل أمام كافر، لم يتمسك بكل كلمة يريدها، ولم يغضب لكل جدال جادله المشرك به، ولم يثر لعدم اعتراف المشرك بنبوته، ولم يجزع لمناقشة عمربن الخطاب له، بل أدار الصلح برؤية القائد الحكيم. إننا فى هذه الأيام فى أمس الحاجة لأن نسترجع دروس صلح الحديبية، وليجلس الجميع لمصلحة هذا الوطن لإدارة دفة البلاد، ويستعد كل منهم لأن يتنازل قليلا ليصل الجميع إلى رؤية واحدة واضحة لمستقبل وصل إلى بلاد العالم، وما زال محتجزا عندنا فى الجمرك!