الصفقة لغة كما جاء في لسان العرب: "صَفَقَ" يَده بالبيعة والبيع وعلى يده صَفْقاً: ضرب بيده على يده، وذلك عند وجوب البيع... وإِنما قيل للبيعة صفقة؛ لأَنهم كانوا إِذا تبايَعوا تَصافَقُوا بالأَيدي. والصفقة اصطلاحا قريبة من هذا المعنى، فهي عملية اتفاق على بيع أو شراء أو تنفيذ، وتكون قبل التوثيق فإذا تم توثيقها أصبحت عقدا.. والصفقة في عرف السياسيين هي عملية تفاوض بين طرفين ينتج عنها الوصول إلى صيغة يتفق عليها الطرفان، يحصل بموجبها كل طرف على مميزات مقابل تقديم مجموعة من التنازلات للطرف الآخر.. بهذا المعنى نرى أنه لا تنجح عملية سياسية ما من غير وجود صفقات بين الأطراف الفاعلة، إما بين حزبين أو بين حكومة وفصيل يملك قوة، أو بين سلطة ومجموعة معارضة تهددها.. ونرى أيضا أن الصفقة لا تنتج إلا بين طرفين متكافئين على نفس القدر من القوة، وإلا كانت إملاء وإخضاعا، فالصفقة تكون بين ندّين.. والصفقة لا تعاب بذاتها فهي كما قلنا ضرورات سياسية وصراع قوى يطرح مفهوم التفاوض كبديل للصدام، ولكن الصفقة تصبح مشينة إذا تم التفاوض فيها على المبادئ أو على المسلّمات التي لا تقبل الجدال.. وأصعب مربع يتم التفاوض فيه هو مربع المعتقدات، فكلما زادت المعتقدات فإن العملية التفاوضية تكون أصعب، ولهذا تفشل باستمرار كل المحاولات التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ لأن كل طرف منهما يضع الأرض في مربع العقيدة، وهو ما لا يقبل التفاوض من الأساس.. والأفضل أن نخفف قدر استطاعتنا من المبادئ والأسس الراسخة التي لا تقبل التفاوض، ونضع معظم المسائل الخلافية التي قد نختلف فيها مع الآخرين في مربع العادات، وسأعطيك لهذا أمثلة سهلة وحية.. هوية الدولة ومرجعيتها.. أنا أراها حرية مقيدة بضوابط وأنت تراها حرية مطلقة، نحن الآن نختلف، لو أنك تصطدم مع معتقداتي فليس بيني وبينك حوار من الأساس، ولو أنك تصطدم مع قناعاتي فسأحاورك من منطق الشفقة ومحاولة الاحتواء دون استعداد للتنازل، ولو أننا نختلف في أمور عادية تتعلق بدولة نعيش فيها معا لا غالب ولا مغلوب، فوقتها سندير تفاوضا يخرج بموجبه الطرفان وقد حصل كل منهما على مكسب يرضيه، بدلا من سحق المخالف وممارسة قمعه بكل قوة.. هذا الذي فعلناه لتوّنا هو صفقة، عملية تفاوض للوصول إلى صيغة اتفاق عن طريق تقديم تنازلات مُرْضية للطرف الآخر.. ماذا تقول إذا جئت لك بأمثلة راقية من تاريخنا الإسلامي العريق، وعن "صفقات" أجراها محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- مع كفار قريش، ومع يهود المدينة.. والتاريخ مليء لمن أراد الاستزادة.. ذات يوم خرج رسول الله وأصحابه من المدينة يريدون الحج، فلما اقتربوا من مكة علموا أن قريشا جمعت الجموع لمقاتلتهم وصدهم عن البيت، وهم لم يخرجوا غزاة ولا مقاتلين، فبايع المسلمون رسول الله على الموت، ثم حانت بادرة الصلح، فأرسلت قريش سهيل بن عمرو، واتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلح في الحديبية (صفقة)، مقابل أن يعود رسول الله وأصحابه إلى المدينة هذا العام على أن يحجوا العام المقبل (تفاوض)، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم (تنازل) فدعا علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم (مبدأ). فقال رسول الله: اكتب: باسمك اللهم (لاحظ). ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله: إني رسول الله، وإن كذبتموني (مبدأ)، اكتب محمد بن عبد الله (لاحظ جيدا). ثم تمت كتابة الصحيفة على شروط رآها المسلمون مجحفة جدا بحقهم، وتمثل كل المصالح لقريش، وهنا شكّ بعض الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب الذي قال: "والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: علام نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه... قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له مثلما قلت لرسول الله، وردّ عليّ كما رد عليّ رسول الله، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق". هذا مثال رائع في التفاوض وعقد المعاهدات، والصفقات، وهي سياسة اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، لم تقنع البعض فشكّ، ولكنه في النهاية عاد إلى ما انتهى إليه الأمر إما من باب الثقة، وإما من باب استيضاح المصلحة.. ما دامت الصفقة لم تأت بما يشين.. لو لم تكن مقايضة على الشرف أو الانتماء أو المبادئ عموما، فما المانع؟؟ وأحيانا يكون رفض البعض للصفقة ناتجا عن فشل في الحصول على نصيب منها، أو من أجل تفويت الفرصة على صفقة أخرى.. وما المانع في هذا أيضا؟ إنها قواعد اللعبة كما يلعبها المحترفون!