فى نظريات الإعلام نظرية شهيرة تعرف بنظرية ترتيب الأولويات، تعتمد على قوة سائل الإعلام فى وضع «أجندة» المتلقى، وترتيب أولوياته، من خلال القضايا التى تطرحها. أخبرنى أىّ القضايا لها أولوية، وكيف تعالَج، أستطع أن أصف لك إعلامك. أخبرنى موقع القضايا الملحة فى بناء الأوطان، أو فى عرض الحقائق على الناس، أقل لك هل هو إعلام محترم أم إعلام «شو» يبحث عن «فرقعة» أو يخاطب «شهوة» الرجل الجالس أمامه. دعنى، بلا مواربة، أحدثك عن الواقع، ومن خلال خبرة العمل ومشاهدة كواليس هذه المهنة، التى تحولت إلى صناعة ضخمة فيها، تسودها شريعة المصالح على كل قواعد المهنية، مهما كانت «اليافطة» التى يعلقها المذيع أو رئيس التحرير أو صاحب المحطة أو مال الوكالة الإعلانية. دعنى أحدثك عن مقادير الانحطاط التى أودت بهذه المهنة إلى ضياع حقيقى، بعد أن اختفى نموذج الإعلامى المهنى، وحل محله الإعلامى المناضل، الذى لا همّ له سوى إثبات أنه صاحب قضية حتى لو ناقض نفسه، أو الإعلامى الأراجوز الذى يسخر البعض منه فى البداية قبل أن يتحول، بفعل نفخه من الجميع، إلى قائد سياسى، أو الإعلامى البلطجى الذى يخرج ليوزع صكوك الوطنية على من يشاء، ويسحبها، بل ويطالب بسحب الجنسية نفسها ممن يخالفونه الرأى بعد وصلة «ردح»، بعيدًا عن أى نقد موضوعى، وفى غياب كامل للمعلومات والمستندات لإثبات أى ادعاء. من مقادير الانحطاط اللهاث خلف «الإفيه» أو النماذج المبتذلة لتقديمها فى البرامج على اعتبار أن المذيع بذلك سيقدم «حلقة سخنة»، وهكذا ينتقل الانحطاط من السوشيال ميديا أو اليوتيوب إلى التليفزيونات ووسائل الإعلام التى تدخل بيوتنا، لتصبح هذه النماذج هى المقدمة على نماذج أخرى تتوارى خجلا وألمًا مع سبق الإصرار والترصد، أمام صاحب مكالمة جنسية مسجلة، أو مونولوجست علاقته بخفض معدلات الخصوبة أكبر من علاقته بالضحك!! من مقادير الانحطاط السعى لتصدير القضايا التافهة، وصناعة شىء من لا شىء، بمبدأ أنها من قضايا المجتمع، رغم أن نفس المجتمع يشكو دائمًا من أن الإعلام لا يتحدث عنه، بينما انصرف كثير من الإعلاميين إلى الابتذال، والرغبة الدائمة فى صناعة «خناقة» على الهواء ينشغل فيها الناس والسوشيال ميديا، بعد استضافة ضيف شتام، أو ضيفة مثيرة للجدل، و«تسخين» الأجواء من المذيع بحجة إتاحة الفرصة لآراء مختلفة. من مقادير الانحطاط تقديم الهستيريين وأصحاب الصوت العالى كأصحاب رأى واتجاه سياسى غالب، ومع مرور الوقت تتم صناعة برامج لهم يجلسون فيها بالساعات ليمارسوا بغاء إعلاميا حقيقيا تحت لافتة «مصلحة الوطن»، ليتم تصفية الحسابات تحت هذه اللافتة، وكأن الوطن «قاصر»، وكأنهم مسؤولون عن «مصلحته»، وكأن كل من يملك صوتا مختلفا مهما بدا ناصحا، هو عدو للوطن. من مقادير الانحطاط استغلال منبرك الإعلامى للسب والشتم والخوض فى الأعراض بلسانك أو بلسان ضيوفك أو بلسان معديك أو بأيدى صحفييك بمبدأ «بسك عليه» الذى يتبعه كثيرون، قبل أن يطالبوك بالرد ظنا منهم أنهم بذلك مهنيون ومحترمون وأصحاب ضمير لا ينام، رغم أنه مات وشبع موت. يتسرب للناس عن الشتامين أنهم «مسنودون»، وفى نفس الوقت فإن لهم هستيريين يشبهونهم، يصنعون منهم أبطالا لو اقترب العقاب من أحدهم، ولو كان عقابا قانونيا نبحث عنه مثل عيل تايه. من مقادير الانحطاط مغازلة رجال أعمال بأعينهم أو النيل من رجال أعمال بأعينهم، إما لهوى سياسى، أو لهوى إعلانى، أو أملًا فى أن يدخل رجل الأعمال بحصة مالية فى وسيلة الإعلام التى يظهر فيها صاحبنا أو صاحبتنا. من مقادير الانحطاط الإعلامى تقديم أنصاف وأرباع وأعشار العقول بوصفهم خبراء استراتيجيين، ليحدثوك دائمًا عن نظرية المؤامرة، وينقلون لك معلومات غير صحيحة بالمرة دون سند أو دليل، لا لشىء إلا لشحنك، وإذا حدثت أحدهم عن ذلك أخبرك بأن كل شىء مشروع فى الحرب على الإرهاب، وهى لافتة أخرى يتم تخويف الناس بها حين يقولون ما لا يرضى الخبير الاستراتيجى ومن والاه. من مقادير الانحطاط الاهتمام بالمؤخرات وقضايا الآداب والدعارة ووضع عناوين ساخنة لها أملًا فى «ترافيك» أعلى للموقع، وفتح الباب أمام «الملاسنات» و«خناقات الشوارع» تحت لافتة الرأى والرأى الآخر، ووضع عناوين مضللة رهانًا على قارئ مراهق ينقل من مجرد العنوان، ما لا يقرؤه متنًا! المثير للدهشة والضحك، وأحيانًا الغثيان: أن بعض من يتحدثون عن المهنية فى الإعلام هم أول من ينتهكونها ويهتكون عرضها فى برامجهم أو صحفهم أو مواقعهم، مقدمين الوصفات الكاملة من مقادير الانحطاط. أما الأكثر إثارة للقرف وخبط دماغك فى الحيط.. أن أغلب من يتحدث عن البديل حين يمكن من عمل إعلامى يقدم نفس مقادير الانحطاط لخدمة أفكاره وتوجهه! ستوافقنى بالطبع على أن مناخ الهستيريا والصراخ يساعد فى # مقادير- الانحطاط الإعلامى. هستيريا التأييد وهستيريا المعارضة وهستيريا المراقبين أنفسهم التى نحياها والتى تجعلنا نقول: إن الهستيريا تحكم. لكن أعتقد أنك يجب أن توافقنى حين أقول، وأؤكد أن كل # مقادير- الانحطاط الإعلامى يمكن أن تتراجع أمام تشريع حقيقى وتنظيم شريف للمهنة من أبنائها، وإرادة مخلصة من الدولة فى رفض الانحطاط والهستيريا.