سيذكر التاريخ العربى الحديث، أن الصراع العربى الصهيونى بدأ أولا «كصراع وجود»، ثم تحوّل بمرور الوقت إلى «صراع حدود»، وانتهى فى مسلسل «فرقة ناجى عطا الله» إلى «صراع بنوك». لا أتحدث هنا فقط عن سطحية الرؤية السياسية فى المسلسل، ولكنى أريد توسعة الفكرة لتشمل سطحية الرؤية فى الأعمال الدرامية عموما، ستجدُنا عادة أمام أمرين: إما نغمة جهيرة الصوت إلى درجة «إنت من الأحرار يا على» و«مصر ح تفضل غالية علىّ» وكارثة «ليلة البيبى دول»،أو معالجات شديدة السذاجة، تدعو إلى الرثاء، على طريقة مهمة نادية الجندى فى «تل أبيب»، أو معالجاتها العميقة لعصر «فاروق»، أو على طريقة فيلم «طبّاخ الرئيس»، وهو من أعمال يوسف معاطى قبل ثورة يناير، شاهدنا فى هذا الفيلم محنة الرئيس النبيل، عاشق كشرى «أبو طارق»، وسط حاشية من اللصوص، وكأن هؤلاء اللصوص هبطوا عليه من السماء، وكأن القانون يجب أن يلتمس العُذر للرؤساء المغفّلين، ولا يلتمس العُذر للشعوب البائسة. فى «فرقة ناجى عطا الله» يقطع «معاطى» أشواطا فى اختيار معادل موضوعى عجيب، ترجمةً للصراع بين العرب وإسرائيل، دعك من زحف التجاعيد على وجه وجسد عادل إمام الذى يُفترض أن يقود فريقا مدربا لسرقة بنك إسرائيلى، وحاول أن تنسى استلهام فكرة سرقة البنك للانتقام من سرقة الأرض والمال من الفيلم المعروف «ملح هذا البحر» للمخرجة الفلسطينية «آن مارى جاسر»، وتغاضَ عن استلهام تكوين فريق للعملية من أعمال معروفة مثل «رجال أوشن الأحد عشر»، و«مهمة مستحيلة». كل ذلك يمكن ابتلاعه بالماء والخشاف، بعد يوم صيام وإفطار دسم، ولكن ما لا يمكن ابتلاعه الإلحاح على فكرة أن محاولة دبلوماسى مصرى استرداد أمواله من الصهاينة بسرقة أحد بنوكهم، يمكن أن يكون معادلا دراميا لقدرة المصريين والعرب على هزيمة إسرائيل فى ميدان العلم والتكنولوجيا، بل إن بطلنا العجوز القادم مباشرة من انتصار أكتوبر، يكاد يعتبر عملية السرقة عبورا جديدا يعادل رمزيا اقتحام خط بارليف! من السذاجة أن تقدم للمتفرج المصرى والعربى البائس هذا التعويض الهزلى عن سرقة الأرض، ومن العبث أن يكون اقتحام بنك فى إسرائيل دليلا على تفوقنا التقنى والحضارى والتكنولوجى، كأن إسرائيل لا تستطيع مثلا التخطيط لسرقة بنك فى أى عاصمة عربية، وقد رأيناها تغتال كبار المسؤولين الفلسطينيين، أو تحاول اغتيالهم، فى عمليات مشهورة، من بيروت وعمّان، إلى دبى وتونس، بدا الأمر وكأننا نستطيع تكوين فرقة «ناجى عطا الله»، ولا يستطيعون هم تكوين «فرقة ديفيد شالوم لسرقة البنوك العربية». يفشل هذا البناء للأحداث فى أن يكون مقنعا، خصوصا أن «ناجى عطا الله» تضخمت ثروته أصلا بسبب جلسات القمار التى ينظّمها، كما أنه يشعر بحيرة بالغة فى إنفاق الأموال المسروقة فى الدول العربية، التى اشترك بعض مواطنيها «بالدعم اللوجيستى» فى عملية السرقة. لا شك أن بطلة فيلم «ملح هذا البحر» كانت أكثر قدرة على إقناعنا بالتعاطف معها: الفتاة الفلسطينية «ثريا» التى ولدت ونشأت فى «بروكلين» بالولايات المتحدة، ثم اكتشفت أن بنك «يافا» قام بتجميد حساب جدها، عندما ترك بلاده إثر النكبة فى عام 1948، هنا يمتزج العام (النكبة) مع الخاص (مصادرة البنك لأموال الجد)، وبالتالى تكون لمحاولة استرداد المال بنفس الطريقة الإسرائيلية، مدلولها الرمزى القوى، بصرف النظر عن نتيجتها. فإذا أضفت إلى كل ذلك، انتقال المسلسل إلى التناقضات العربية فى لبنان وسوريا والعراق والصومال ومصر، فإن السرقة فى مسلسل «ناجى عطا الله» لم تحلّ المشكلة، ولكنها كشفت عن تناقضات أكبر، ترجع إلى طريقة تعامل الذهنية العربية مع مشكلاتها، أى أن نجاح السرقة نفسه فقد تأثيره تماما، لأن ما بين الحكام العرب وشعوبهم، وما بين الأنظمة العربية من صراعات، يتجاوز بمراحل سرقة إسرائيل لإيداعات دبلوماسى مصرى، ومحارب قديم مغامر. نحن إذن أمام فكرتين، تُحقق الأولى نصرا وهميا وكاذبا، وتُدخلنا الثانية فى دوامة الصراعات العربية، وبينهما حقائب أموال مسروقة لا يعرف سارقها كيف ينفقها، فيستخدمها لتحرير الأسرى وتزويج العشاق وإطعام الجوعى، ده على أساس أن أموال النفط لا تُستخدم إلا فى شراء الجوارى، وباعتبار أن العرب لا يدققون كثيرا فى مصدر الأموال، وقديما قال الحكماء: «كله عند العرب صابون». إذا بدأت من فكرة ساذجة ستدخل فى طوفان من السذاجات المتتالية حتى لوكانت هناك مشاهد كثيرة خفيفة الظل، امتزجت دوافع «ناجى عطا الله»، حتى لم نعد نعرف هل سرق البنك من أجل الانتقام الشخصى، أم كراهية للصهيونية التى سرقت أرض فلسطين، والتى أوصلتنا إلى التفرّغ للصلح بين فتح وحماس، أم أنه اتخذ قرار السرقة بدافع تاريخى، ذلك أن اليهود عندما خرجوا من مصر، أيام فرعون موسى، سرقوا الحلى والذهب المصرى، تقدر تقول إن عملية «ناجى» وفرقته، مجرد تعويض مؤقت، قرش صاغ لأحد أحفاد الفراعنة المسروقين، فى انتظار سرقة أكبر، فى مواسم رمضانية قادمة. لستُ ضد فكرة كتابة المسلسلات والأعمال الدرامية لتناسب ممثلا معينا، المشكلة تبدأ عندما تكون الشخصية الدرامية أضعف من الممثل، تشعر فى مناطق كثيرة أنك أمام عادل إمام شخصيا بصورته النمطية فى أفلامه: ساحر النساء، الشخصية الأقوى فى السفارة رغم أنه مجرد ملحق إدارى، الزعيم الذى يقود ويدرب ويسيطر على العملية الكبرى. عندما كتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، سلسلة مقالاته الشهيرة إثر هزيمة العرب العسكرية فى حرب 1967، قال عن حق إن الصراع العربى مع الصهيونية هو صراع حضارى بالأساس، كان يقصد بالتأكيد أشياء أخطر وأكثر عمقا من أن نستخدم التكنولوجيا فى سرقة بنك إسرائيلى، أو أن نفرح بالفرجة على ذلك فى مسلسل رمضانى ظريف. فكرة «بهاء» تتحدث عن صراع مستقبلى بين العقول والقدرات والمواهب، عن عدد العلماء العرب مقابل عددهم فى إسرائيل، عن إسهام العرب فى تقدم البشرية لا فى فتاوى الدخول بالرجل اليمين إلى دورات المياه، أو حُكم الوقوف فى أثناء الاستماع إلى السلام الجمهورى. كان «بهاء» يناقش أخطاء الحرب وأسباب الهزيمة باعتبارها التجلّى الواضح لأخطاء العقل العربى فى الميل إلى التعميم، وعدم الاستفادة من تجارب الماضى، لدرجة أن «موشى ديان» قال يوما: «إن العرب لايقرؤون»، وربما أضاف أيضا: و«إذا قرؤوا لا يفهمون». الانتصارات العسكرية لا تحددها الأسلحة والخطط فقط، ولكنها تكشف دوما عن رؤية معقدة تجعلك تعرف لماذا تحارب، وكيف تحدد أهدافك، وما الذى تريده من كل معركة؟ تجعلك أيضا تدير مجتمعك لصالح مواطنيك، وتحرر عقول الناس قبل أن تحرر الأرض التى تدافع عنها. بعد سنوات طويلة من فكرة «بهاء» الرائعة، ما زلنا ندور وسط حلقة مفرغة، اكتشفنا مع الأسف أن أنظمة عربية قتلت من شعوبها أضعاف ما قتلته من الإسرائيليين، «بشّار» الجزار استخدم جيشه لقتل الآلاف ولم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل. معمر القذافى كان مجنونا هاربا من البيمارستان يعيش أيام المماليك، صدام حسين استخدم الغازات لقتل الأكراد، أموال النفط ما زالت فى بنوك أوروبا وأمريكا، وتحت أقدام الروسيات، «فقه المراحيض»، كما كان يطلق عليه الشيخ محمد الغزالى، ما زال سائدا، ولولا بقية من الحياء لخصّصوا له إحدى مواد الدستور. ثم إننا اهتدينا أخيرا إلى حلّ عبقرى يحسم القضية: نأخذ من كل قبيلة رجلا، وندربهم جميعا على سرقة بنوك إسرائيل، فلا تقوم للدولة العبرية قائمة. نسرق لهم بنكا، وهم يسرقون لنا بنكا، ونعيش من غير بنوك «إحنا الاتنين».