خيالك، يا أستاذ قارئ، هو ما أحتاج إليه الآن، ولا أخفى على سيادتك أن القارئ الذى بلا خيال يجعل من الكتابة ممارسة عبثية، بالضبط كأن يسبح الواحد فى عرقه على السرير، ممنيا النفس بأنه -لو استمر هكذا طوال الليل بلا توقف- سيكون قد تمكن فى الصباح من عبور المانش، فإذا سمحت، بلاش علشان خاطرى تعطل خيالك، أرجو أن تكون على مستوى الرحلة، سوف نحاول التحليق فى سماء المنطق الذى لا يتوقف البعض عن إعلان أنه فى حالة موت إكلينيكى، وعلى الإنسان فى مواقف كهذه أن يتخلص من الوزن الزائد، خصوصا تلك الأفكار المحنطة بين تلافيف الدماغ، كترسانة الأقوال المأثورة التى يصدقها الناس من كثرة ما رددوها، اتفقنا؟ فلنقلع إذن. أنا من حيث المبدأ لا أستطيع دحض كل الأكاذيب التى نغرق فى مستنقعها إلى ما فوق الجباه. ليس هذا فى مقدورى أصلا، أكاذيب الثلاثين عاما الماضية غير ما أضيف إليها بمعرفة نفايات النظام البائد، ولا أقول فلوله، الكذب أصبح هو القاعدة، بينما تراجع العقل لينام فى الخرائب مع القطط والكلاب وساقطى القيد ومطاريد الحياة، ولا أستبعد أن نراه قريبا يمثل أمام المحكمة العسكرية بتهمة البلطجة أو الأجندات الأجنبية، أو لأنه حلم بالمجتمع المدنى أو بلا سبب على الإطلاق. فضلات النظام البائد، ولا أقول فلوله، تروج لفكرة غبية، مفادها أن استمرار الثورة حتى تحقق أهدافها هو المسؤول عن ضرب السياحة فى مصر، وهى تحاول بذلك أن تقنع ملايين المواطنين الذين يعملون فى قطاع السياحة بأن ينقلبوا ضد الثورة، كما تهدف من خلال هذه الأكذوبة السقيمة إلى إيهام الناس بأن الثورة لم تجلب لهم سوى الخراب، المصيبة أن كثيرين انطلت عليهم تلك الخرافة التعسة، إليك إذن هذه القنبلة، إسبانيا، التى هى إسبانيا، دولة سياحية عظمى، بل إنها أكبر دولة سياحية فى العالم، يزورها أكثر من تسعين مليون سائح سنويا، وهو ما يزيد على ضعف عدد سكانها. إسبانيا، التى هى إسبانيا تلك، فيها -يوماتى على الله- عشرات الاعتصامات والمظاهرات والإضرابات التى تنتشر بطول البلاد وعرضها، إحدى هذه المظاهرات عرضتها الفضائيات العربية، لأن الشباب هناك قاموا برفع أعلام مصر انبهارا بثورة 25 يناير، حدث هذا فى أهم ميادين العاصمة مدريد: بويرتا ديل سول، أو ما ترجمته: باب الشمس، بالإضافة إلى أن فى إسبانيا منظمة إرهابية معروفة اسمها إيتا، ولم ينخفض عدد الذين يزورون إسبانيا سائحا واحدا، ولا توقفت عجلة الإنتاج، الأمر نفسه ينطبق على إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول الديمقراطية، لا أحد هناك طالب المواطنين بالكف عن استخدام حقهم الطبيعى فى التعبير عن أنفسهم بالتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب، كما تفعل هنا نفايات الإعلام، التى ما زالت تدين بالولاء إلى الرئيس المخلوع، إحياء لهذا المونولوج الثقيل الظل الذى كثيرا ما ردده اثنان من أخلص رجال الديكتاتور المجبر على التنحى فى أثناء الثورة وبعدها، إلى أن ألقى بهما الثوار خارج التاريخ، وهما أحمد شفيق وعمر سليمان، منظرهما فى هذا الدويتو البائس لا يبعث فى الواقع إلا على الرثاء، مطلع المونولوج الشهير كان يقول: يالاّ يا ولاد بقى على بيوتكو، وكل واحد ينام فى سريره، وعلى افتراض أن العاهل الإسبانى الملك خوان كارلوس الأول شخصيا قد أشار من بعيد إلى هذا المعنى، فإنه كان سيظل دونما أدنى شك خلال الأشهر الطويلة التالية بطلا لجميع الرسومات الكاريكاتيرية. المسؤول الوحيد عن ضرب السياحة فى مصر أو تباطؤ عجلة الإنتاج هو غياب الأمن. إنها المؤامرة الكبرى التى ترتكبها فضلات النظام البائد ومباحثه ورجال أعماله وبلطجيته، وقد استعان ضباط المباحث بالبلطجية قبل الثورة طويلا، لجرجرة المتظاهرات من شعورهن من الرصيف إلى الرصيف، أو الاعتداء على المعارضين، أو ضرب القضاة بالأحذية، أو تزوير الانتخابات، لا يوجد من يستطيع أن يزعم أنه نسى هذه المشاهد البشعة، اختلط دور ضابط المباحث بالبلطجى، حتى نشع كل منهما على الآخر. وعلى سطح الماء الآسن فى مستنقع الأكاذيب، تطفو -كواحد من أخطر الطحالب السامة- حكاية الأحزاب المدنية ذات المرجعية الدينية تلك، هل رأى أحد من قبل طائر بطريق مرجعيته بطيخة؟ طائر البطريق مرجعيته بالضرورة طائر بطريق، والبطيخة مرجعيتها بالحتمية بطيخة، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: إما أن يكون كل من يسعى إلى الترويج لهذه الأكذوبة الصريحة عامدا متعمدا يقصد من ورائها الغش السياسى مع سبق الإصرار والترصد، أو أن السبب هو جهله التام بعلم المنطق أو بنظرية المعرفة أو قواعد التدقيق فى المصطلحات أو المفاهيم، ولا أدل على ذلك من جمعة قندهار فى 29 يوليو الماضى، ما لا يعرفه أحبار تلك الجماعات أن تصرفا يتسم بالرعونة كهذا، جاء بمثابة التطعيم المبكر لشعب مصر ضد أمراض التطرف الإرهابى، وعلى الجميع أن يتعلموا أن الأحزاب تقاس بمرجعياتها، لا بالفتارين، حيث تتكدس البضاعة التى تموج بالألوان الفاقعة لجذب انتباه المارة، الحزب الدينى هو الذى يستند إلى مرجعية دينية، والحزب المدنى مرجعيته لا بد أن تكون مدنية، الباقى كله مجرد تلاعب سمج بالألفاظ. خطورة السباحة على الظهر فى مستنقع الأكاذيب، تأتى من أن الإنسان فى هذا الوضع لا يرى سوى القمر والسماء المرصعة بالنجوم، فيتوهم أن كل هذا ليس إلا انعكاسا لصفحة المستنقع الموبوء الذى يرقد هو بطمأنينة على سطحه، بينما تتغذى عليه ديدان الخداع الأزلى الذى عرفه المصريون منذ أقدم العصور، الخوف أيضا أن يصبح هو والمستنقع والأكاذيب -مع مرور الوقت- شيئا واحدا لا يتجزأ، بالضبط كما حدث لنفايات النظام البائد، ولا أقول فلوله.