سعت القوى المدنية بكل قوة وبإخلاص وصدق للوصول إلى توافق مع قوى الإسلام السياسى حول تشكيل التأسيسية الجديدة، وحرصت على تأكيد الرغبة الحقيقية فى التوافق، لكن ما حدث كشف عن صعوبة التوافق، فالتوافق فى عرف تيار الإسلام السياسى يعنى أن تسلم له بما يريد وأن تثق فى ما يقول فى زمن تراجعت فيه الثقة بين التيارين. فوجئنا فى اللحظة الأولى من المفاوضات بين القوى المدنية على توزيع حصة التيار على الأحزاب والهيئات، بوجود ممثلين عن حزبى الوسط والبناء والتنمية -الذراع السياسية للجماعة الإسلامية- فقد وجه السيد البدوى رئيس حزب الوفد الدعوة إليهما لحضور مفاوضات القوى المدنية دون إبلاغ ممثلى الأحزاب المدنية وكان موقفًا محرجًا للغاية، فمن ناحية، ينتمى الحزبان إلى تيار الإسلام السياسى، ومن ناحية ثانية فإن العلاقات الشخصية مع رئيس حزب الوسط المهندس أبو العلا ماضى، تمنع من طرح التساؤل علانية لما ينطوى عليه من إحراج غير مقبول لشخص يتسم بدماثة الخُلق ويتمتع باحترام رموز التيار المدنى، ورغم ذلك هناك من امتلك مهارة طرح السؤال مبتسمًا عن مغزى وجود الحزبين فى اجتماع توزيع حصص التيار المدنى على الأحزاب والهيئات والجماعات الممثلة له. جاء الرد عجيبًا من رئيس حزب الوفد، قال إن الاتفاق يقضى بحصول حزبى الحرية والعدالة والنور على نصف مقاعد الجمعية التأسيسية، ومن ثم فإن النصف الآخر سوف يوزّع على مؤسسات الدولة من قومية ودينية (القضاء، الأزهر، الكنيسة والحكومة) ولها ثمانية عشر مقعدًا وحصة قوامها أربعة مقاعد لحزبى الوسط والبناء والتنمية وأحد عشر مقعدًا للأحزاب المدنية (أربعة مقاعد للوفد ومقعدان للمصرى الديمقراطى الاجتماعى ومثلهما للمصريين الأحرار ومقعد للتجمع وآخر للكرامة وثالث لحزب غد الثورة) يتبقى بعد ذلك سبعة عشر مقعدًا لاستكمال تمثيل نسبة الشباب والمرأة والأقباط والفئات الضعيفة فى المجتمع. طرحت القوى المدنية اقتراحًا بأن تجنب حصة مؤسسات الدولة من قومية ودينية وتوضع فى منطقة «محايدة أو رمادية» ويجرى تقسيم العدد الباقى وقدره 82 مقعدًا بين التيارين المدنى والدينى، فرفضوا بشدة، طرحنا أن يحصل حزبا الوسط والبناء والتنمية على حصتيهما من حصة تيار الإسلام السياسى فتم رفض الطلب واقترحنا أخيرًا رفع نسبة التصويت إلى الثلثين حتى يمكن ضمان عدم توفر غالبية لأى تيار، فإذا تم رفع نسبة التصويت إلى الثلثين فلن يتمكن أى فريق من تأمين هذه النسبة دون توافق مع الفريق الآخر أو مؤسسات الدولة من دينية ومدنية، وهو ما تم رفضه من جديد. أمام هذا الموقف الرافض لكل الحلول الوسط لم يكن أمام قطاع من التيار المدنى ممثل أحزاب الكتلة المصرية وحزب التحالف الشعبى إلا وقف المفاوضات وعقد اجتماعات مكثفة للتشاور، انتهت بإعلان عدم المشاركة فى الجمعية التأسيسية لسبب واضح، وهو أن قوى الإسلام السياسى قد حصلت واقعيًّا على ما يفوق النسبة المطلوبة لتبنى الدستور الجديد، ومن ثم فإن وجود هذا القطاع من التيار المدنى لن يؤثر فى شىء، فلن يمكنه منع تبنى مادة من مواد الدستور ولا طرح مادة لتبنيها، فقوى الإسلام السياسى حصلت على حصة تقترب كثيرًا من الحصة التى حصلت عليها فى التأسيسية السابقة، ومن ثم لا يوجد أى مبرر للاستمرار فى عضوية الجمعية التأسيسية. فى نفس الوقت، قررت القوى المدنية عدم الدخول فى مواجهة مع التأسيسية الجديدة، وعدم رفع دعاوى قضائية، فقد كان قرار الانسحاب من التأسيسية الثانية رسالة تحذير من إعادة إنتاج أخطاء التأسيسية الأولى وتكرار للخطايا التى ارتكبت وأسفرت عن معارك وصراعات انتهت بحكم قضائى بوقف جلسات الجمعية، وقد تمت إضاعة خمسة أشهر كاملة فى صراعات حول تشكيل الجمعية، وهو ما توجد مؤشرات قوية على احتمال التكرار هذه المرة أو كتابة دستور يعبر عن فصيل سياسى واحد ولا يمثل مصر المتنوعة، هذا ما حاولت القوى المدنية توصيله من رسائل عبر انسحابها من الجمعية الثانية