تنشأ الأدوار الإقليمية، كالعالمية، عن عملية جدلية بين التاريخ الثقافى والجغرافيا السياسية، وهى عملية معقدة طالما أعادت توزيع الأدوار وإنتاج المكانة بين الدول فى كل مرحلة تاريخية تبعًا لقدراتها على إدارة عناصر مواردها الشاملة. وقد لعبت مصر فى الحقبة الحديثة الممتدة عبر مئتى عام تقريبا تلت حكم محمد على، دورا فى محيطها الإقليمى استنادا إلى موقعها المركزى وكتلتها الحيوية الكبيرة نسبيا، وأيضا سبقها الاقتصادى داخل الإقليم على أرضية الثورة الزراعية، وكذلك ريادتها الثقافية سواء الموروثة تاريخيًّا عن احتضانها الأزهر قلعة الاعتدال السنى، أو المكتسبة بفعل سبقها إلى الحداثة الفكرية، وتجسيدها دور الجسر الذى عبرت عليه إلى جل المجتمعات العربية. اتخذ هذا الدور أشكالًا عدة فى مراحل تاريخية متباينة، فالتبس بالتمدد الجغرافى- العسكرى فى الحقبة العلوية، خصوصًا فى الشام وشبه الجزيرة العربية. ثم ارتكز على الانتشار الثقافى- السياسى فى الحقبة الناصرية التى شهدت قيادة مصر حقبة التحرر القومى. غير أن هذا الدور أخذ فى التآكل تدريجيا منذ نهاية السبعينيات بفعل ذبول حقبة المد القومى العربى، وبداية الاستقطابات السياسية العربية التى أعقبت حرب أكتوبر، وتوقيع معاهدة السلام، بل إنه شهد هبوطا حادا فى العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق، لدوافع عديدة منها شخصية الرئيس نفسه، ومنها عمره حيث دخل فى معاناة الشيخوخة والمرض اللذين قللا من قدرته على الإدراك والحركة، ودفعاه إلى الانطواء على الذات، وإدارة البلاد بمنطق العامل الأجير، يوما بيوم، مما لا يمكن معه التفكير فى دور فعال أو وضع تصورات استراتيجية بعيدة. ومن ثم تأتى أهمية حدث 25 يناير، فرغم كل الارتباكات والانقسامات التى تلتها، فإن أحد الأهداف القليلة التى تلقى إجماعا بين المصريين يتمثل فى استعادة المجالات الحيوية المفقودة للحركة والتأثير، وهى مهمة تبلغ من الأهمية حدا لم تعد معه مجرد اختيار. غير أن إنجازها يتطلب بذل جهود كبرى، والسير فى مسالك وعرة، والتحلى بروح كفاحية قادرة على نقل الوطن من حال إلى حال. وتحديدا تحتاج مصر إلى تنمية عناصر قوتها الشاملة، وتحقيق التناسق فى ما بين المكونين القاعديين: الاقتصادى حيث إعادة بناء الذات، وتشغيل الكتلة البشرية يعد أمرًا أساسيًّا. والاستراتيجى، حيث إن إعادة استثمار القوة العسكرية الكبيرة، وتوظيف الموقع المركزى المزين بقناة السويس، يمثل أمرًا حتميًّا. غير أن الريادة الحقيقية لن تتحقق إلا بتحديد دقيق لمعالم رسالة حضارية يمكن القيام بها. وإذا كان سبق مصر إلى الحداثة، كونها الجسر الذى عبرت عليه القيم، والفنون، والفكر الحديث، إلى المحيط العربى، وفر أرضية جذابة لدورها الموروث على مدى قرنين مضيا، فإن تلك الجاذبية قد تقادمت، وصارت بحاجة إلى تجديد عناصرها، لأن القائد غالبا ما يحتاج إلى بلورة قيم أرقى، والتبشير بأفكار أحدث مما كان سائدا فى أى مراحل سابقة. ولعل رسالة مصر الراهنة تكمن فى تبنى مثل الحداثة السياسية على منوال «الديمقراطية» ومتواليتها من قبيل الدولة الوطنية، والعلمانية، والنزعة الفردية، بهدف تنميتها داخل حدودها، وصناعة النموذج الذى يمكن التقدم به إلى العالم، والتبشير به فى المحيط العربى، طلبا للمكانة الحقيقية والدور الفعال.