يجري الحديث الآن عن تصاعد الدور الإقليمي المصري، وعودة الريادة المصرية وذلك في إطار خطاب وطني شوفيني مبتذل يرى العالم كله متآمراً ضد تلك العودة، التي يبررها ذلك الخطاب بملابسات عادية ويستشهد عليها بوقائع ديبلوماسية لا ترقى أبداً إلى تكريسها، من قبيل خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي في الأممالمتحدة، وهو حدث ديبلوماسي في النهاية رغم الظروف المحيطة به. أو من قبيل انعقاد قمة إعمار غزة في القاهرة، وكأنها المرة الأولى التي تستضيف فيها مصر مثل تلك المناسبات، التي تكررت كثيراً حتى في أواخر العهد السابق ل 25 يناير، ما يعني أننا أمام خطاب مبتذل عن الوطنية المصرية، ورؤية قاصرة لمفهوم الدور الإقليمي.
ذلك أن الأدوار الإقليمية، كالعالمية، تنشأ عن عملية جدلية بين التاريخ الثقافي والجغرافيا السياسية، وهي عملية معقدة طالما أعادت توزيع الأدوار وإنتاج المكانة بين الدول في كل مرحلة تاريخية تبعاً لقدراتها على إدارة عناصر مواردها الشاملة، وعلى التكيف مع التغير في الأوزان النسبية التي تعطيها البيئة التاريخية المتجددة لهذه العناصر نفسها في كل عصر من العصور، وهي تغيرات كبيرة ترتبط بتحولات المعرفة العلمية، وتطورات القيم السياسية، وتبدلات الرؤى الثقافية، إذ لم تعد الكثافة السكانية الكبيرة وحدها أمراً حاسماً في صوغ الأدوار الكبرى، أو خوض الحروب الناجحة، أو تبوؤ المكانة الاستراتيجية المتقدمة. وقد لعبت مصر في الحقبة الحديثة الممتدة عبر مئتي عام تقريباً تلت حكم محمد علي، دوراً في محيطها الإقليمي استناداً إلى موقعها المركزي وكتلتها الحيوية الكبيرة نسبياً، وأيضاً سبقها الاقتصادي داخل الإقليم على أرضية الثورة الزراعية، وكذلك ريادتها الثقافية سواء الموروثة تاريخياً عن احتضانها للأزهر قلعة الاعتدال السُني، أو المكتسبة بفعل سبقها إلى الحداثة الفكرية، وتجسيدها لدور الجسر الذي عبرت عليه إلى جل المجتمعات العربية.
اتخذ هذا الدور أشكالاً عدة في مراحل تاريخية متباينة، فالتبس بالتمدد الجغرافي - العسكري في الحقبة العلوية خصوصاً في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية. ثم ارتكز إلى الانتشار الثقافي - السياسي في الحقبة الناصرية التي شهدت قيادة مصر لحقبة التحرر القومي. غير أن هذا الدور أخذ في التآكل تدريجاً منذ نهاية السبعينات بفعل ذبول حقبة المد القومي العربي، وبداية الاستقطابات السياسية العربية التي أعقبت حرب 1973، وتوقيع معاهدة السلام. وربما كانت المرة الأخيرة التي تبدّى فيها هذا الدور واضحاً كانت إبان حرب «عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت من القبضة العراقية بداية التسعينات، حين شاركت بفعالية كبيرة ضمن التحالف الدولي/ الأميركي بقوات برية بلغ عددها 35 ألف جندي، تأكيداً لسياستها الرافضة لانتهاك السيادة الوطنية لأي من الدول العربية.
غير أن العقد الأخير من حكم الرئيس حسني مبارك، شهد هبوطاً حاداً في منسوب الدور الإقليمي لدوافع عدة منها شخصية الرئيس نفسه، ومنها عمره ودخوله معاناة الشيخوخة والمرض اللذين قللا قدرته على الإدراك والحركة، ودفعاه إلى الانطواء على الذات، وإدارة البلاد بمنطق العامل الأجير، يوماً بيوم، مما لا يمكن معه التفكير في دور فعال أو وضع تصورات استراتيجية بعيدة. ومنها أيضاً نمو الدور السياسي للابن (جمال) واحتلاله موقعه الحزبي المتقدم منذ عام 2004. واضطرار الأب لدفع رشاوى كبرى للعالم الخارجي، لضمان استمرار شرعية النظام وتمرير واقعة التوريث حين يأتي موعدها، ظناً منه أن الرضا الأميركي قادر على تقديم ضمانات لذلك التحول أو على الأقل غطاء له.
ومع التحولات التي عصفت بالمنطقة بدءاً من الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، وصلت مصر إلى أدنى درجات التأثير الإقليمي، وباتت محاصرة بالقوة الأميركية، خائفة من شيء ما، وتم اختصار فعاليتها في رعاية ملف العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين، وضبط العلاقة بين حركتي «فتح»، و «حماس». ومع اندلاع الحربين الإسرائيليتين ضد اللبنانيين والفلسطينيين عامي 2006 و2008، بدت مصر فاقدة الشعور بالسيطرة على مصيرها، عاجزة تماماً أمام العدوانية الإسرائيلية، إلى درجة فسرها بعضهم بالتواطؤ، على نحو جرح كبرياء الجماعة المصرية التي كانت امتلكت منذ وقت طويل إحساساً عميقاً بالمسؤولية القومية، وحساسية شديدة تجاه العدوانية الإسرائيلية، وهنا لم يعد لدى المصريين ما يبكون عليه، ولم يبق أمامهم سوى الطوفان، وهو ما كان. ومن التمدد الجغرافي - العسكري العلوي، إلى الانتشار السياسي - الثقافي الناصري، إلى السلبية الشاملة في ربع القرن الأخير، تتأكد حقيقة أن المكانة ليست هبة إلهية لها طابع الأبدية والدوام، كما أن الأدوار ليست منحاً تعطى لأحد أو تؤخذ منه، بل إن كليهما ثمرة طبيعية لشخصية المكان، وفاعلية البشر في الزمان، وقد يأتي وقت يفقد فيه البشر قدرتهم على استقصاء روح أرضهم لعارض يصيبهم، غير أن هذا لا ينال من حجم المكان ولا من شخصيته، كما لا ينال من قدرة البشر على مراجعة أنفسهم بغية تعديل المسار واستعادة السيطرة على الموقع والمصير.
ومن ثم تأتي أهمية حدث 25 يناير، فرغم كل الارتباكات والانقسامات التي تلته، فإن أحد الأهداف القليلة التي تلقى إجماعاً بين المصريين يتمثل في استعادة المجال الحيوي المفقود للحركة والتأثير، وهي مهمة تبلغ من الأهمية حداً لم تعد معه مجرد اختيار. غير أن انجازها يحتاج إلى ما هو أكثر من عقد اجتماع مهما كان خطيراً، أو إلقاء خطاب مهما كان شجاعاً، إذ يتطلب بذل جهود كبرى، والسير في مسالك وعرة، والتحلي بروح كفاحية قادرة على نقل الوطن من حال إلى حال، ومن موقف تاريخي يتسم بالركود إلى آخر مفعم بالفعالية، وعندها فقط يمكن الحديث عن عودة الدور الإقليمي. وتحديداً تحتاج إلى تنمية عناصر قوتها الشاملة، وتحقيق التناسق في ما بين المكونين القاعديين: الاقتصادي حيث إعادة بناء الذات وتشغيل الكتلة البشرية، والإستراتيجي بمعنى أن إعادة استثمار القوة العسكرية الكبيرة وتوظيف الموقع المركزي المزين بقناة السويس، يمثلان أمراً حتمياً.
ورغم أن تنمية هذين المكونين وتنسيقهما يمكن أن يجعلا من مصر بلداً محورياً في العالم، يكاد يقارب في أهميته الإستراتيجية دولاً كبريطانيا وفرنسا، فإن الريادة الحقيقية لن تتحقق إلا بتحديد دقيق لمعالم رسالة حضارية يمكن مصر أن تقوم بها. وإذا كان سبق مصر إلى الحداثة، كونها الجسر الذي عبرت عليه القيم، والفنون، والفكر الحديث، إلى هذه الأمة، وفر أرضية جذابة لدورها القديم في المحيط العربي على مدى قرنين مضيا، فإن تلك الجاذبية تقادمت، وصارت في حاجة إلى تجديد عناصرها، فالقائد غالباً ما يحتاج إلى بلورة قيم أرقى، والتبشير بأفكار أحدث مما كان سائداً في أي مراحل سابقة. ومن ثم يتعين على مصر الإمساك بالقيم الأكثر حداثة، وحفزاً لحركة العصر على منوال «الديموقراطية» ومتواليتها من قبيل الدولة الوطنية، والعلمانية، والنزعة الفردية، وهي القيم التي يتوجب على مصر أن تنميها داخل حدودها، صانعة نموذجها الذي يمكن تقديمه إلى المحيط العربي، وإلى العالم من حولها، طلباً للمكانة الحقيقية والدور الفعال، أما قبل ذلك فلن يعدو حديث الريادة أن يكون مجرد شوفينية وطنية ونرجسية ثورية.