صباح الخير.. ومع ذلك يا عزيزى لا يفوتنى التنويه والتحذير من أن واحدة من أقوى حقائق دنيانا الحالية، ونحن نعيش تلك المرحلة التاريخية الدقيقة (كالعادة)، أن هذه المرحلة ملوثة بالقسوة والتخريب والفحش والبذاءة، كما أنها مصبوغة بلون دماء طاهرة لا تكف عصابة إخوان الشياطين الزُّرق وتوابعها القتَلة عن إراقتها كل يوم وأحيانا كل ساعة، لهذا تبدو الدنيا فى عز الصبح ليلا مظلما شوية أو شويتين أو ربما أكثر.. لماذا؟ لست أعرف، أو بالأحرى عارف لكنى باستعبط، استنادا إلى أن العبَط بنوعيه الطبيعى والصناعى كليهما حق أساسى من حقوق الأستاذ الإنسان العائش حتى الساعة من دون أى سبب منطقى، فى بلدنا مصر التى هى أمى وإن أنكرت. وما دمت أظهر الآن أمام حضرتك وكأننى أسبح فى بحر التخريف اللذيذ الذى بغير شطآن، وما دام أيضا الأستاذ «العقل» والست «سياسة» حرمه المصون، خرجا معا بعد نجاح ثورة 30 يونيو لكى يتفسحا شوية ويعودا احتفالا بالخلاص من العصابة، فإذا بهما يغيبان ويختفيان حتى الساعة.. ما دام الأمر كذلك، والكلام العاقل عموما و«السياسى» منه بالذات أصبح الآن جريمة فظيعة جدا قوى خالص تضع قائله فورا تحت مقصلة البهدلة والتشهير والتعريض والتحريض وخلافه، تلك التى يديرها بهمّة ونشاط محموم قطيع عرمرم من زملاء صحفيين «على ما تفرج»، و«إعداميين» كبار فى السن كانوا قد وُلدوا وجرى اختراعهم أيام نظام الأستاذ حسنى مبارك وولده، وتلقوا أيامها تدريبا مهنيا مكثفا فى معهد أمناء الشرطة (مع شديد الاعتذار ل«الأمناء» الأصليين الذين يواجهون الآن خطر الاستشهاد يوميا دفاعا عن أمننا وسلامتنا(. ولأننى أعرف أن القطيع المذكور أعلاه لم يكمل تعليمه أصلا ومن ثم لم يسمع قَطّ عن شىء يدعى «المكارثية» وإنما يمارسها ويحاكى أسوأ وأوسخ صورها بدافع من فطرته المشوهة فحسب، لهذا ليس أمامى الآن إلا أن أهديه فى السطور المتبقية مختصر حكاية هذا السيناتور الأمريكى الْمَوتور المدعو «جوزيف مكارثى» الذى من اسمه اشتق اصطلاح «المكارثية» وصار تعبيرا دالا على أبشع وأحط صور العربدات الظلامية والإرهاب الفكرى والتفتيش فى ضمائر خلق الله. .. أبدأ الحكاية بأن الأخ مكارثى (1908- 1957) تَسّلم فى نهاية أربعينيات القرن الماضى راية الإرهاب وتفتيش الضمائر من سلفه وأستاذه السيناتور «بارنيل توماس» الذى كان بدوره أسس وترأس فى عام 1947 لجنة نيابية سماها «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا»، لاحقت بالعقاب والتنكيل العشرات من أكبر الكتّاب والفنانين والمبدعين الأمريكيين بتهمة اعتناق الأفكار الشيوعية، لكن التلميذ سرعان ما تفوق على الأستاذ ونسى الناس جرائم وفضائح «التوماسية» (نسبة إلى هذا السيناتور الفاسد) بعدما كابدوا فضائح وفظائع أكثر فحشا وأشد قسوة اقترفتها لجنة مكارثى. هذه اللجنة المشؤومة يكفى للدلالة على بشاعة المناخ الإرهابى المسموم الذى أثقلت به أجواء المجتمع الأمريكى منذ نهاية الأربعينيات حتى منتصف خمسينيات القرن الماضى، ذكر بعض أسماء القامات الفكرية والإبداعية التى زينت قائمة ضحاياها، إذ ضمّت هذه القائمة شخصيات بحجم: شارلى شابلن، وبريتولد بريخت، وآرثر ميلر، وجريجورى بيك، وهمفرى بوجارت، وفرانك سيناترا، وجيمس ستيوارت، وجين كيلى، وريتا هيورث، وآفا جاردنر، ودانى كاى، وغيرهم!! وأختم بأن العدالة الإلهية لم تهمل هذا الرجل الشرير ولا أمهلته حتى يذهب إلى آخرته السوداء، وإنما حلت عليه وهو ما زال على قيد الحياة اللعنة نفسها التى أصابت من قبل أستاذه فى الإرهاب بارنيل توماس، فكما سقط هذا الأخير بعد إدانته بالفساد، جرت محاكمة جوزيف مكارثى أيضا بتهمة التزوير والفساد فانتهى مدمنا على تعاطى المخدرات ومات وهو لم يبلغ بعد عتبة الخمسين عاما بعدما استقرت سيرته السوداء فى سلة زبالة التاريخ.