لقد اكتوى المصريون لقرون طويلة من أشكال مختلفة من الاستغلال والظلم، كانت تتم غالبا تحت ستار عبارات وأقوال دينية. فالرضوخ للحاكم الظالم المستبد، كان يتم تبريره بآيات تحض على «طاعة ولى الأمر»، والضرب بأيدٍ حديدية على أى اعتراض أو رفض اجتماعى أو سياسى للظلم كان يُمارس تحت مظلة «وأد الفتن»، التى هى «أشد من القتل»، وذلك بالطبع بعد تكفير من يسعون لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمع، بدعوى أنهم «يخرجون على الحاكم». كما كان للمصريين أيضا خبرات سيئة مع أشكال أخرى من استغلال عاطفتهم الدينية. فقد كانت القوى الاستعمارية تلعب على وتر هذه العاطفة لتتلاعب بهم وتسيطر عليهم. فقبل أن تطأ مدافع نابليون أرض مصر، كان قد أعد بيانا يوزَّع فى ربوع البلاد، يُعلن فيه إسلامه! وحين كان الألمان على أبواب العلمين فى الحرب العالمية الثانية، أصبح هتلر معروفا بين المصريين بأنه «الشيخ محمد هتلر»، فى تمهيد تقليدى لاحتلال جديد. والسؤال الذى يطرح نفسه هو: لماذا يحرص كل هؤلاء اللاعبين السياسيين على مزج خطابهم السياسى بخطاب دينى؟ ربما كانت الإجابة عن هذا السؤال كامنة فى تحديد الفرق بين الخطاب السياسى والخطاب الدينى، خصوصا الخطاب الإلهى، كما يتجلى فى آيات القرآن الكريم. آيات القرآن الكريم خطاب إلهى مقدس. المتكلم فى هذه الآيات هو الله، والمخاطَبون به هم عباده. ثمة علاقة محددة تربط بين المتكلم والمخاطَبين هى علاقة العبودية. فإله الناس هو رب الناس ومالكهم، والناس هم عبيده وممتلكاته. وهناك استجابة مُلزِمة للمخاطَبين إزاء الخطاب الإلهى، هى الإيمان والتصديق المطلق. وأقصى ما يمارسه المخاطَبون إزاء النص المقدس بعد حفظه عن ظهر قلب، هو محاولة فهم مراده بهدف العمل به. وكل المشكلات التى يمكن أن تظهر فى أثناء عملية الفهم سببها محدودية قدرات المخاطَبين، مقارنة بإعجاز النص المقدس. ومن يخرج على القواعد الملزمة للاستجابة للخطاب الإلهى، أى التقديس والتصديق قد يكون معرضا للإقصاء الدينى، أى الطرد من دائرة الإيمان والإسلام، وللإقصاء الخطابى، أى الاستبعاد من مفهوم «جماعة المسلمين». على النقيض من ذلك، فإن الخطاب السياسى هو خطاب بشرى يلقيه رجل السياسة ليتلقاه المواطنون على اختلاف معتقداتهم وقناعاتهم. تتحدد العلاقة بين المتكلم والمخاطَب فى الخطاب السياسى بأنها علاقة بين رجل سياسة ومواطن. هذه العلاقة تقع فى إطار الحقوق والواجبات المتبادلة، ويحكمها عقد اجتماعى يحدد الدستور طبيعته. والخطاب السياسى خطاب استشارى يعرض فيه السياسى على المواطنين ما فعله أو يفعله أو سيفعله بغرض إعلامهم واستشارتهم، وحضهم على القيام بفعل ما أو نَهيهم عن القيام بفعل آخر. يتوجه الخطاب السياسى إلى كل المواطنين دون استثناء. فهو خطاب عام، يُفترض فيه أن لا يُمارِس تمييزا دينيا أو عرقيا أو سياسيا، حيث إنه ينبنى على مفهوم «المواطنة»، الذى يُلغى أيَّا من هذه التمييزات. نظريا، لا توجد قيود على استجابة الجمهور للخطاب السياسى، وتتراوح الاستجابة بين المناقشة والحجاج، أو القبول والرفض، أو التصديق والتكذيب، أو التأييد والاعتراض، أو التبرير والتفنيد. ولا تتأثر العلاقة بين المتكلم والمخاطَب نتيجة لأى من هذه الاستجابات، فالمخاطَب الذى يناقش الخطاب السياسى أو يعترض عليه أو يرفضه أو يفنده يمارس حقا مشروعا تكفله المواطنة. والسياسى لا يجب عليه أن يقبل هذه المناقشة أو الاعتراض أو التفنيد.. إلخ فحسب بل يقع على عاتقه توفير المناخ المناسب لممارستها. يكشف التمييز السابق عن الاختلاف العميق بين الخطابين السياسى البشرى والإلهى الدينى. ويمكن تصوير هذا الاختلاف بأنه يماثل الاختلاف بين الإلهى والبشرى عند المؤمنين الخلَّص. فالمسلم يقدس كل كلمات الله عز وجل، ويقبلها باقتناع تام وإجلال عظيم. فى حين أن كلمات السياسى التى كثيرا ما تحركها مصالح شخصية أو فئوية أو مذهبية جديرة بالشك فى أغراضها وأهدافها، وتتطلب المساءلة الدقيقة والنقد الشامل، حتى لا يقع المواطنون فى حبائل التلاعب والتضليل السياسى، فالسياسة هى بالأساس حقل المكيدة والخداع. إن الخطاب الدينى يحوز قوة استثنائية مستمدة من التقدير الاستثنائى، الذى يعطيه المتدينون للمصدر الذى ينبع منه، أعنى الإله. إضافة إلى أن الخطابات الدينية غالبا ما تكتسب حصانة ضد أشكال المخالفة أو المقاومة. وهكذا فإن نفاذ رجل السياسة إلى الخطاب الدينى، وتضفير خطابه السياسى به، يمثل أداة لتعزيز قوته وقوة خطابه فى مواجهة منافسيه. ولهذا يسعى السياسيون للتقنع بقناع الخطاب الدينى، ليمتزج الكلام الدينى المقدس والكلام السياسى النفعى. وهدف هذا المزج عادة ما يكون تحويل ما هو مقدس إلى أداة تحقق منفعة سياسية أو مادية لفرد أو جماعة بعينها. يحدث هذا المزج غير البرىء بين المقدس والنفعى فى بعض المجتمعات المعاصرة فى الشرق والغرب، لكن خطورته فى المجتمع المصرى فى الوقت الراهن أكبر. ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب من بينها التحالف الوثيق بين بعض الجماعات «الدينية» وأنظمة حكم عربية خارجية تتخذ من الدين ستارا للاستبداد الداخلى والهيمنة الخارجية، وتسعى بقوة لإجهاض أى مشروع لنهضة مصر، لأن هذه النهضة تمثل خطرا كبيرا على استمرار تلك الأنظمة العائلية المستبدة. إضافة إلى ضعف روح التسامح وغياب ثقافة التعايش وتغلغل التعصب الأعمى لدى كثير ممن يسعون للوصول إلى السلطة تحت قناع الدين. ومن المؤكد أن وصول أمثال هؤلاء المتعصبين إلى السلطة سوف يؤدى إلى الدخول فى نفق مظلم من الاستبداد السياسى تحت غطاء دينى.