د.إبراهيم قويدر تابعت بدقة واهتمام الباحث ما يدور من حوار فى لقاءات عديدة وقرأت كثيرا عما كتب فى المغرب والمشرق حول موضوع العلمانية كتوجه يحول إدارة المجتمع وسياساته الاجتماعيه بمفهومها الشامل إلى برامج موضوعية بعيدة عن الدين وتحكم رجال الدين لقصر دورهم على العبادات وقصر علاقة المجتمع بالدين على العبادة واعتبارها علاقة بين الانسان الفرد وخالقه يمارسها من خلال بيوت الله. تابعت تاريخ هذه المسألة منذ بداية الصراع ضد سيطرة الكنيسة فى العالم الغربى المسيحى وظهور ممارسات خاطئة من قبل رجال الكنيسة أدت إلى خلق شعور عام بالاستياء منها إلى درجة كبيرة ولد تيار مضاد لهذه الممارسات، هذا التيار مع تطور الزمن وبلورة افكارا ومبادئ اصحابه حتى أصبح فى عصرنا الحالى ما يطلق عليه بالعلمانية نسبة إلى أن تترك امور السياسات الاجتماعية والاقتصادية وإدارة المجتمع والتخطيط له فى زمن السلم والحرب إلى أ العلماء بكافة تخصصاتهم. كان مولد هذا التيار نتاجا طبيعيا لموقف رجال الدين فى الكنيسة ضد النتائج العلمية المتعلق بكافة أمور الحياة ووصفهم العلماء بالخارجين عن الدين، بل وصل الأمر إلى تصفيتهم جسديا، من هنا التف الكثير من المثقفين والثوريين، وحتى عامة الناس فى تلك المجتمعات فى ذلك الوقت، حول التيار المطالب بإقصاء رجال الكنيسة عن ممارسة السلطة. ووفقا للتطور الانسانى والتوسع المفهوم والتشعب والتداخل فى أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد تحول هذا التيار إلى توجه أساسه أن الدين ورجاله يقتصر دورهم على العبادات، وأن المواطن يمارس دينه باعتباره علاقة بينه وبين ربه. أما الحياة السياسية وشئون الحكم وإدارته فهى خاضعة لمنطلقات أخرى تمحورت بعد ذلك فى شكل نظام الحكم المبني على الحريات المعروفة والديمقراطيه وعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص وتوزيع السلطات: تشريعيه وتنفيذيه وقضائيه- إلى أن ظهرت بعد ذلك السلطة الرابعة الصحافة والإعلام بكافة أشكاله. ولعل الزمن الآن بدأ يبلور شكلا جديدا من السلطة الخامسة هي سلطة منظمات المجتمع المدنى. ولعل الكثير من الباحثين والمؤرخين السياسيين والاجتماعيين تناولوا هذه القضية بشكل مفصل وتعمقوا فى دراستها وتحليلها، وقام بينهم جدل استقر فيه الرأي فى المجتمعات الغربية على أن أمور الدولة والحكم تسير بعيدا عن الكنيسة ورجال الدين. ومن خلال التواصل المستمر بين كافة أنحاء المعمورة وحركة الاستعمار الاستيطانى لدولنا الإسلامية والعربية وظهور أشكال الحكم المماثلة للمستعمرين الغربيين، حيث علينا أن نلبس ما يفصلونه لنا، انتقل الجدل من مجتمعاتهم إلى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، خاصة فى وقتنا هذا الذى أصبح فيه الكون قرية ألكترونية صغيرة يتم التواصل فيها بسرعة لا يختلف على سرعتها اثنين من متابعى حركة التطور اليومى للشبكة العنكبوتيه، مما أدى إلى سهولة انتقال هذا التوجه بفكره ومساراته المختلفة المبهرة للأنظار إلى شبابنا ورجالات سياساتنا ورواد فكرنا العربى الديمقراطي المعاصر والحديث، وتبنى العديد منهم هذا التوجه مطلقين على أنفسهم "العلمانيين" ومنهم من كان وسطًا موضوعيًا ومنهم المتعصب إلى أبعد الحدود التي تصل أحيانا إلى التطرف لفكرة العلمانية ومنحاز إليها انحيازًا كاملا. هؤلاء عملوا على تحجيم علاقة الفرد والمجتمع بالدين فى إطار العبادات والالتزام بها مثل الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا، أما أمور الحكم وإدارته فيجب أن تكون وفقا لآرائهم حسب ما تم نقله لنا من الغرب من أشكال لممارسة الديمقراطية، حيث استطاعت المجتمعات الغربية أن تبهرهم كما أبهرتنا جميعا، ولكن البعض منا تناسى الاختلاف الكبير بين الأنماط الثقافية والمورثات الاجتماعية فى مجتمعاتنا العربية ومثيلاتها فى المجتمعات الغربية. وفى نفس الوقت فى الجانب الآخر ظهرت مجموعات أخرى اصطلح الجميع فى وسائل الإعلام المختلفة على تسميتهم ب"الاسلاميون"- رغم اعتراضى الشخصى على هذه التسمية فكلنا مسلمون مادمنا لم نمارس أي عمل يوصلنا إلى الارتداد عن ديانتنا السمحاء ونتحول إلى مرتدين كفار- هذه المجموعات منها أيضا من غالى كثيرا فى معاداته للعلمانية وأصر أن يتم كل شيء وفقا لولاية الفقيه وحكم رجال الدين من العلماء والفقهاء، معادين، بل ومكفرين لأى فكرة لها علاقة بالتوجهات العلمانية حتى وإن كانت لا تخالف الشريعة الإسلامية. هكذا نحن نعيش اليوم، صراع فكرى قد يطول البحث فيه لو أردنا الخوض فى تفاصيله، ولكنى وقفت على حقيقة هامة أجتهد أمامكم فى تقديمها ولعل هناك من وقف عندها قبلى وتناولها ولكنى أريد أن أوضحها هنا بعد دراسة وقراءات عميقة للموضوع. والحقيقة الهامة هي أن وضع الدين الإسلامي يختلف فى جوهره عن ممارسات الكنيسة والديانات الأخرى، وهذا من المفترض أن يعيه العلمانيون، فالدين الاسلامى قضيته، ياسادة، مختلفة اختلافا كثيرا، فهو لا يسعى للهيمنة عل الإنسان مثلما يدعي المدعون، ولهذا سأحاول أن أبسط الأمر فى هذه السطور رغم صعوبة وحساسيه الفكرة، وذلك وفقا لما يلى : نعلم أن العلمانية الغربية ترتكز على أركان أساسية منها حرية الإنسان ما دامت لا تمس حرية الآخرين، وكذلك على المصداقيه فى سلوكيات التعامل بين البشر بعضهم البعض وبينهم وبين إداراتهم الحكومية، فالمواطن له حقوق مقدسة دستوريا تحترمها الإدارة الحاكمة، وعليه واجبات مقدسة أيضا تجاه مجتمعه وإدارته، ولو تعمق إخواننا العلمانيون وفقا لمناهج البحث العلمى التى يحترمونها حسب أطروحاتهم ولو تعمقوا فى دراسة تاريخ هذه الأسس المتعلقة بالسلوكيات والحريات فى دساتير ومبادئ وحقوق الإنسان العالمية والغربية- لوجدوا جلها أو معظمها مفصلة بدقة متناهية فى آيات وسور القرآن الكريم وأحاديث وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحتى القليل القليل منها التى ترى الشريعة الإسلامية عكسه لو تم التعمق فيه لوجد من خلال الفحص والدراسة أن منعه أو الاختلاف عن ما هو مسطر فى الحريات والحقوق ومع الشريعة الإسلامية مصدره الحفاظ على آدمية الانسان وصون عفة المجتمع، لأن مثل هذه الأشياء ينتج عنها أمراض اجتماعية تهدد كيان وبناء المجتمع، على سبيل المثال حرية "العلاقات المِثلية" أو بعض أشكال الحريات الإباحية فى علاقات الذكر بالأنثى، كلها علاقات أثبت البحث العلمي أنها تسبب أمراضا لكلا الطرفين، فمثلا إتيان المرأة في فترة الحيض التي حرمها الإسلام، قالت بعض الأبحاث إنه سبب في انتشار أمراض مثل الإيدز، والعياذ بالله، علاوة على ما تسببه العلاقات المثلية من تغير في التركيبات الهرمونية للإنسان. كما أن العلمانية تقوم على أساس الحكم الديمقراطى الذى يحاول أن يكفل للشعب ممارسة حقيقية للسلطة وإبداء رأيه فى مصير بلاده ومجتمعه من خلال اختياره للممثلين عنه فى برلمانات مختلفة الأشكال من مجتمع إلى آخر، وإذا نظرنا لنظام الشورى فى الإسلام لوجدناه عندما كان يمارس على حقيقته بشكل فعال وحقيقى وليس بالتزوير مثلما يحدث فى وقتنا الحاضر لوجدناه نظاما أرقى بكثير من برلمانات العالم الغربى اليوم، لما يدور الآن مع اختلاف الموقع فإن الدولة الإسلامية ازدهرت وحكمت العالم فى عصرها لأنها التزمت بسلوكيات الإسلام والتى تمثل الشورى واحترام رأي الناس وكرامتهم وحريتهم ورفع الغبن عنهم وأنهم سواسية ولا فرق بينهم إلا بالتقوى، ولا يمكن لأحد أن يستعبد الآخر، فهم أحرار داخل مجتمعهم، وكانت سلوكيات الأفراد فى المعاملات الاقتصادية والاجتماعية مبنية على احترام الحقوق والتوثيق المنظم وعدم الغش والمصداقية فى التعامل، متبعين فى ذلك تعاليم الدستور الإلهى البديع، القرآن الكريم. واليوم أصبح المسلمون فى التصنيف الثالث أو الرابع أو بينهما عالميا، وتقدم عنهم الغرب بكثير لأنه يمارس الآن فى جانب الحريات وسلوكيات التعامل فى الحياة الاقتصادية وجل الحياة الاجتماعي إلا القليل ، نفس الأنماط التى كانت تمارسها دولة الإسلام وتقدمت بها فى العصور السابقة، وهم أكثر من غيرهم يعلمون جيدًا أننا لوعدنا إليها سنزاحمهم مع الزمن على ريادة العالم وقيادته. وهذا أيضًا على المستوى الأصغر ما بدأ يحدث من قفزات حضارية تقدمية فى ماليزيا وأندونسيا وإلى حد ما فى إيران. من هنا أقول لإخواننا العلمانيين العرب، إن صح هذا التعبير: عليكم بروح العلم والتعمق فى دراسة الشريعة الإسلامية ولا تطلقون الأحكام المسبقة من خلال استماعكم لبعض من فقهائنا الأجلاء المتعصبين وفقًا لمنهجهم غير الوسطي فى الحياة، عليكم التأني والبحث والدراسة والفحص لكى تتضح لكم الأمور، وإن الحريات العامة في الاسلام تختلف عنها في الكنيسة أيام الثورة ضدها فى العصور الوسطى. وفى نفس الوقت أقول لإخوانى الذين أطلقوا على أنفسهم أو أطلق عليهم الاسلاميون خاصة المتعصبين منهم: أفسحوا المجال لإخوانكم أصحاب الآراء الأخرى، ولا تمارسون قمعًا فكريا لا يقبله الإسلام وعليكم، وفقا لمبادئ الاسلام، التحاور واستجلاء الحقائق، وإذا صبرتكم وأفسحتم المجال للحوار وكظمتم الغيظ فستستطيعون احتواء الجميع لأنكم تملكون الحجة العظيمة التى مصدرها كلام الله تعالى حيث يقول: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل آية 125)، وبالتالى نكون معا صفا واحدا متحدين لا منقسمين، نحقق مجتمعا حرا سعيدا تصان فيه كرامة الإنسان وتحترم حريته وتتكافأ فيه فرص الحياة وتعم فيه العدالة والمساواة، ويمارس فيه الناس سلطتهم بالشكل الذى يتماشى مع حضارتهم وأنماطهم الثقافية والحضارية تحت مظلة القرآن الكريم الذى يجب أن يكون مصدرًا نلتزم به عند إصدار أي تشريع ويكون قولا وفعلا، لا شعارا فقط. WWW.DRIBRAHIMGUIDER.COM