في هذا الصباح تحديدآ أريد أن اموت , لا يقوى عقلي على إعطاء المزيد من أوامر الارتحال لساقي الهزيلتين , لا أقوى على الحركة ولا على التنفس , ولا يوجد مساحة بين اضلعي لمزيد من الحنين , يأتينا صوت القصف من مسافة ليست ببعيدة , فيتحرك كل من حولي في هلع , بينما افترش انا الارض لاصقا ظهري ببرودة جدار ذلك المأوى المتهالك , لم تعد اصوات الانفجارات تقلقني , ولم يعد الموت يعنيني , بل ربما كان موتي هو طوق نجاتي , انا من فقدت كل شئ , و التفت حول عنقي ايادي الحنين تقتلني كل صباح قتلاً بطيئاً علقميّ المذاق. في صفوف طويلة وقفنا ننتظر غرفة من طعام , ينخر البرد اوصالنا , احاول ان اعتصر ذاكرتي ماذا كان ذلك المكان قديما قبل ان يساويه القصف بالتراب ؟ اي الابنية كانت تشكل تلك الاحجار المهشمة قبل تكومها في هذا الشكل الكئيب ؟ ما عاد يزعجني صوت الطنين الذي يصاحبني منذ وقوع ذلك الانفجار بقربي , اتعجب كثيرا من سوء حظي , لماذا لم اتمزق كلية و اتحول الى اشلاء سعيدة بالشهادة , عوضا عن ذلك الجسد المشوه الذي تبقى من الشخص الذي اعتدت ان اكنه ؟ اتذكر نقاشاتنا الحماسية انا ورفقاء الدراسة عن تحرير فلسطين , و احلام يقظتنا بالصلاة داخل المسجد الاقصى , وذلك الحزن الذي كان يغمرنا عند تعرض اهلها للقصف الاسرائيلي , وعلمنا بأحوال اللاجئين السيئة , لم نستطيع في ذلك اليوم ان نقدم العون لهم , شاركناهم الأسى الصامت وحسب , اكلت يوم اكل الثور الابيض ؟ ربما , لقد فهمنا المشكلة الحقيقية مع بداية هذه الحرب , فلكي تحرر غيرك يجب ان تحرر نفسك اولا , فمن لا يمتلك الحرية لا يستطيع منحها , ونحن لم نمتلك الحرية يوما , كلنا محتلون يا عزيزي , كلنا محتلون , تنوعت اشكال الحكم والمد الاستعماري واحد , لقد كان وجعنا الاكبر عند اندلاع الحرب هو عدم قدرتنا على التصديق بان اشلائنا تتمزق بنيران ظنناها يوما ما صديقة , وان الشخص الذي القى على رأسي اطنانا من المتفجرات لربما شاركني يوما مقاعد الدراسة , كنا نعرف كلنا اننا تحت حكم نظام مستبد , ولكننا لم ندرك مدى طغيانه الا عقب سقوط اول قذيفة فوق رؤوس اطفالنا , هذا نظام يمكنه التضحية بوطن عن اكمله في سبيل كرسي , كيف لا ادعوه احتلالا؟ نادية , صغيرتي و اخر من تبقى من اهلي , اذكر نظراتها الذاهلة عقب تعرضنا للقصف الذي صاحبني بعده الطنين , نادية يا ملاكي , لا ترمقيني بتلك النظرة الشاردة , انتبهي للهفة عيني عليكِ , نادية , لا تنزفي كل دمائك بين زراعي , لا تتركيني وحدي وسط ذلك الجنون المرير, نادية يا وردتي الحلوة , سأحضر لك الحلوى كما اعتدت ان افعل كل مساء عند عودتي من العمل قبل اندلاع الحرب , ستستقبليني استقبال الفاتحين قافزة هاتفة " اجى بابا , اجى بابا " , وسأحملك يا ربيع العمر كله وأمازحك فتتناثر ماسات البهجة بين ضحكاتك العذبة , نادية يا حلوتي , لا ترحلين , نادية لماذا ترتعشين كعصفور صغير ؟ نادية , استفيقي ارجوكِ , يأتيني صوتك مرتعشا متقطعا , " بابا بردانه " ثم تحولين بصرك نحو اللاشيء وتصمتين , تصمتين للابد , بينما يسيل خيط دماء رفيع من بين شفتيك الزرقاوين , نادية , نادية , نادية.. وكأن مدافع طغاة العالم اجمع قد اتحدت و وجهت فهواتها نحونا وحدنا , كلما هدم مكان فررنا نحو غيره سيهدم بعد حين , و كلما دوى صوت انفجار ازداد شخوص الابصار , واختلط البكاء بالصراخ , لا يوجد اطفال نائمون بيننا , ولكن يوجد الكثير من المذبوحين , لم تعد عيوننا تغفوا اختياريا , اما ان يغالبنا النعاس فنخطف سِنَةّ , او يهزم الموت فينا الحياة فنغفو ابدا , النوم ضيف عزيز جمع حقائبه ورحل , تسألني متى نمت اخر مرة ؟ حقا يا عزيزي لم اعد اتذكر , انا مستيقظ منذ سنين. تتشابك خيوط الفجر مع خيوط الظلام , يحمل كل منا بقايا هشيم ذكرياته فوق ظهره , ومن تبقى حيا من ابنائه و اهله , ويأخذ وجهة لا يعرفها , في المنافي يتلاحم الغرباء , علهم يجدون في تلاحمهم طيف من دفئ الوطن , او رحمة من رحمات الامان المفقود , الارتحال اصبح مرسم يومي من مراسم الحياة , اصعب ما فيه انك تعطي ظهرك لرفات عزيز ضمته ارض غريبة , ربما كان طفلك , او امك , او شخصا تشاركت معه الطريق اثناء النزوح الاخير , اما الوطن فهو حلم بعيد , بعيدا جدا , لم اعد استطيع ان اعطي تعريفا واحدا واضحا عن ماهيته , فالأرض التي اسير عليها الان جزء جغرافيا من بلدي , لكنها ليست وطني الذي اعرفه , متى كانت اخر مرة شعرت فيها بكلمة وطن ؟ ربما كان ذلك في اخر صباح سبق اندلاع الحرب , وربما كان ذلك في اليوم الذي هدم القصف فيه بيتنا على من فيه , لا لا لا , لم يختفي الوطن فجأة , بل تلاشى تدريجيا , ودفن اخر شعور لي به في قبر نادية , فوق حشايا دميتها الممزقة , وبين احلامها الطفولية بأنها ستصبح طبيبة عندما تكبر , ومع معرفتي بأنها لن تكبر قط. اسرع الي ايها الخلاص , اسرع بأجنحتك البيضاء , فلم يعد في ذلك العالم شئناً يعنيني , حلقي يا طيور الاسى و انشدي نواحك خلف اثر الراحلين , و انت يا عبير العزيزة دمشق , لفني , وامح بعضا من سواد الوجع بقلبي , اشتاق صباحا تشدو فيه فيروز , ونسمات هواء لا تخالطها رائحة البارود , اشتاق زهر الشام , و الوان الربيع فوق المروج , اشتاق دفئ بيتي , و ابتسامة نادية تلفني , وصوتها العذب يغني خلف قناة الاطفال المفضلة لديها , تشتاق جفوني للنوم الطويل , فليتوقف كل ذلك الجنون الان , فانا حقا اشتاق الوطن . صافيناز رسلان