قصة : أحمد محمد عبده جلبى كنت قد استيقظت فزعة ومدفعية السفن البرتغالية تقصف منزلنا ،هرولت إلي المطبخ حيث كانت أختي حنان تعد طعام الإفطار وصوت القذيفة يطن في رأسي وأنا أسير نصف نائمة ، متصورة أنني مصابة وأن الدم لوث بيجامة النوم لأجد حنان تبتسم مشجعة وكأني لا أنزف أمامها وتبادرني بقولها : ها الأمتحان الساعة كام . أدركت وقتها أنني أحلم وأن التاريخ قد دخل في بعضه ، مع كثرة المذاكرة والقراءة للحروب ، تصور عقلي الباطن ، قصف السفن للشواطئ العربية في كلوه وممبسه وباقي ساحل الصومال حتي وصل لبيتنا في المعادي! وأنا أتناول البيض والقشطة ، راجعت ما سمح به الوقت، ووجدتني أفر ألف ومائة عام بالتمام والكمال ولا أدري لماذا كان ذهني منشغلاً تماماً وقد ارتسم أمامه "طبجية المدافع البرتغالية "وهم يقومون بتعمير مدافع الأسطول لقصف الشواطئ والدخان يتصاعد من فهواتها ليغطي الوجوه ووجدتني أصرخ رائحة البارود ، رائحة الموت . في دخله حنان وهي تقول: ينهار حرقتي الجنز بتاعك .. حتروحي إزاي دلوقتي . وفعلاً كان الشياط قد عبأ المكان وانثقب البنطلون في النصف بشكل لا يمكن أن أدعي معه إنه موضة، ألقيته جانباً لأخذ غيره أسود ، حتي لو أحترق "ميبنش". إلا أن حنان انتزعته انتزاعاً وهي تقول: خلصي نفسك أنتي والبسي اللي فوق، علي بال ما أكوي اللي تحت . كانت اللجنة كخلية نحل ، تطن بأزيز الأصوات وكأنها ترانيم الصلوات أو الدعوات في لغة غير مفهومة مختلطة الرطانة ، الواضح منها فقط صياح المراقبين بصوت عال: بس .. بس مش حنوزع ورق إلا لما الكل يخرس ويتهد، أنتو عيال ، أنتو كبار ، بس ؟ ومع تنامي الأصوات أطل دوي المدفع في رأسي وقد تضاعف حجم الصوت حتي ابتلع في داخله كل الأصوات وفجأة أصبحت لا أسمع شيئاً وحل صمت ترقب مفاجئ محل الصخب وتقارع الأدراج والطاولات وتقدم الكراسي وتأخرها وفي لحظة وجدت أمامي المدافع تتحرك للمواقع الأمامية والرجال قد انكبوا علي صب البارود وشحن المدافع بالدانات ومع توالي وتتابع انطلاقات المدافع ، بدون وعي اشتركت يدي بالقلم ترسم علي الأسطر الحروف وتسجل الأحداث ، أوامر بلغة السؤال ألغاز وطلاسم وضح أجب ، أروي .. ما بين دون سباستيان وهو علي صهوة جواده يقسم فرسانه الإيطاليين والألمان والبرتغاليين علي شكل حربة ضد المغاربة عرب وأمازيغ يقاتل محصوراً بين الوديان ومخازن المياه والمنصور الذهبي وقد جمع قواته علي شكل هلال ، يرفع مدافعه ويواجه جيش البرتغال ، بالنار والناس والحديد ، كان الطلبة قد شرعوا مع أقلامهم ومساطرهم يحركونها ذات اليمين والشمال حركة السيوف والحراب والبنادق ومع دوران الشمس أمتلأت أرض اللجنة بأمواج من البشر المتلاطم والمتلاحم وحلت صفوف المقاتلين محل صفوف الكراسي ببنادقهم وخيولهم وصدامات الكتل الحربية والتراب الثائر يخبئ الضوء والحر القاتل يصرع الجنود صرع الرصاص والنار والمياه تندفع لتحصرهم وتحصدهم في الوادي الضيق بين الجبال ويتساقط الفرسان ويموت الملك سباستيان غريقاً في ماء النهر وتدوي أصوات المدافع معلنة انتهاء القتال ويصيح المراقب : انتهي الوقت ، انتهي الوقت ، سلم ورقة الإجابة ، مع هرولة المراقبين وتنازع الطلبة الأوراق معهم تنازع المنتصر والمغلوب. أفقت علي صوت زهور : توتة ، عملتي أيه .. حليتي أيه. : أسكتي ملحقتش أراجع حاجة . : تراجعي أيه دا أنتي مبطلتيش كتابة ولو لثانية واحدة ومليتي الورقة وش وظهر . : أنا؟ اللي هو أنا يعني . :أيوه يا توتة دا المراقب التخين كان بيجي جنبك ويقرأ من ورقتك وبعدين يشاور عليكي ويقول أهوه، كده العيال المذاكرة. : مسمعتوش بيقول كده خالص. : أنتي مكنتيش واخدة بالك ولا بتخزي العين ؟! سكت ، الواقع أنني لم أعرف ماذا أقول ، كانت أصوات المدافع لا تزال تزأر في رأسي وكنت ألهث كأنني أجري حول الأستاد ومع محاولات التذكر ،عرفت أنني ربما أجبت جيداً في هذه المادة ولم يكن من الممكن تغير شيءً الآن. سنحت لي فرصة الحديث مع الدكتور/ عبد الله بعد ظهور النتيجة بأكثر من أسبوعين قال لي: أنتي الطالبة التي أخذت في مادتي (عشرين علي عشرين) "وكنت أعلم ذلك بالطبع" غير أنه استطرد فقال : لابد أن تكملي للماجستير فقد أعجبني سردك لمعركة وادي المخازن ... و"حتي اللحظة" لم أعرف كيف كنت هناك في قلب المعركة !! غير أنني ومع انجلاء غبارها عن نصر كبير كنتُ أيضاً من الرابحين.