نظر النجم عمر الشريف فى عيون الجمهور، ووجهه يكسوه نضارة شاب فى الثمانين من عمره، وتحدث عن ذكرياته مع السينما قبل أن يباغتنا بالقول إنه صاحب الجثمان الذى يتأهب الجميع لمواراته التراب، وأنه كان يتمنى لو أنه اعد العدة لهذه اللحظة. جلس فوق مدفنه، وبجواره كلب يتبول على قبره فى مشهد استهلالى قوى للفيلم المغربى «روك القصبة» تنطق صورته المدهشة بحكاية الحياة والموت وما بينهما، وهنا ينفتح الكادر على اتساعه لنرى عالما حقيقيا ينبض بصراع أزلي بين أفكار المرأة والرجل فى الشرق، وهو ما كشفت عنه بالتتابع أحداث العمل الذى عرض على شاشة مهرجان دبى السينمائي الدولي مشاركا في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة. عنوان الفيلم يوحى بأننا سنكون أمام عمل عن موسيقى الروك الشهيرة، حيث إنه مأخوذ من أغنية قديمة بالاسم نفسه لفريق الروك الإنجليزي «كلاش» منذ30 عاما، لكن المخرجة الواعدة ليلى مراكشى فاجأتنا بموضوع مغاير انحازت فيه للمرأة «التى يحصى الله دموعها ويصب غضبه على من يبكيها» حسبما انتهى الفيلم على لسان راويه عمر الشريف ايضا، وهو ينظر الينا نفس نظرة البداية. فى منزل عتيق على أطراف مدينة طنجة المغربية، تحيطه حديقة تلفها الاشجار لتقيه اشعة شمس الصيف الحارة تدور احداث الحكاية، تجتمع ثلاث اخوات ووالدتهن وخادمة عجوز بعد وفاة الاب ورجل البيت، وعلى مدار ثلاثة ايام تجرى فيها مراسم تشييع الجثمان والعزاء تتصاعد العواطف وتتأرجح بين دموع وابتسامات، لتكشف التفاصيل وقع العادات والتقاليد على اجيال مختلفة من النساء انطلاقا من علاقتهن بالاب البرجوازى السيد حسن الذى كان مهيمنا على بناته بآليات مختلفة، ولتبوح النساء وتثور ولتحاول أن تكون. فالعائلة هنا تجتمع لدفن كبيرها الذى لا يريد طيفه مغادرة المنزل، حيث يظهر ويتكلم مع حفيده الذى طالما اشتاق لرؤيته فى مشاهد بدا فيها الراوى والمتوفى السيد حسن «عمر الشريف» فى ابهى صوره على الشاشة، يؤدى بمزاج خاص، ورشاقة متناهية، وبروح مبدعة تلهم طاقات بشر جمعت بين التسلط والشاعرية. السؤال الذى اندفع بداخلى: من قال ان عمر الشريف سيعتزل التمثيل؟!، ربما يعتزل التعاون مع مخرجين لم يستطعوا اظهاره بشكل لائق، لم يستوعبوا قدراته وتوظيفها جيدا فى اعمالهم، لكنه ابدا لن يعتزل التمثيل وقد ابهر الجميع فى فيلمه الاخير الذى يحمل رقم 80. الشريف نفسه الذى اضاف للعمل بخبرته وتألقه الكثير كان قد اكد انه كان يبحث بعد فيلمه «المسافر» عن تجربة جديدة ومختلفة بالنسبة إليه، يعود بها للسينما، وهذا ما وجده فى هذه التجربة التى يراها جديدة عليه تماما». ولا ننسى هنا قول مخرجته ليلى مراكشى بخصوص اختيارها لعمر شريف فى هذا الدور: «عمر الشريف طبع طفولتى كما طبع طفولة اجيال كاملة من محبى السينما وهو احب السيناريو. قبوله العمل معى كان الهدية الاكبر لهذا الفيلم». تتناول المخرجة المغربية عالم هو نوع من جنة مفقودة يظل كل شىء فيها معلقا، تقرب الواقع من الحلم، كما يجتمع فيها الحاضر بالماضى الذى يفرض نفسه فى اللحظة ويفجرها حيث تفتح الدفاتر وتصفى الحسابات وتنكشف الاسرار. جمعت عددا من الممثلات العربيات الموهوبات، ربما لإعطاء بعدا عربيا وعالميا، فإضافة إلى المغربيات مرجانة علوى التى تؤدى دور صوفيا الوحيدة الابنة الصغرى التى تتمرد على سلطة الوالد وذهبت للعيش فى الولاياتالمتحدة وصادقت مخرجا أمريكيا عملت معه وحققت ما كانت ترغب فيه من أن تكون ممثلة، لكن أدوارها كانت تقتصر فقط على تمثيل شخصية الإرهابية فى مسلسلات أمريكية، وعودتها إلى بيت العائلة مع ابنها الحفيد الذى تمنى لو رآه قبل أن يموت، تكون مناسبة لتصفية الحسابات مع اسرتها، ولبنى الزبال التى لعبت دور كنزة أصغر الأخوات، وهى فتاة مطيعة عملت معلمة بناء على رغبة الاب لكنها تمتلك حنكة فى التغلب على المصاعب. وهناك اللبنانية نادين لبكى التى شاركت بدور «ميريام» التى تبدو مصطنعة إلى أقصى حد ولا تهتم سوى بالمظهر وعمليات التجميل ولا تريد أن تكبر. بينما جسدت بتلقائية ومشاعر محبطة، الفلسطينية هيام عباس دور الام التى تحاول ان تبدو قوية بعد علمها بخيانة زوجها مع الخادمة (فاطمة هراندى) وانجابه منها ولدا فى السر، لم تكشف عنه الاحداث الستار سوى عندما يحب هذا الولد احدى البنات الثلاث وكان الاب يرفض ارتباطهما دون ان يكشف ان الولد اخ للبنت التى انتحرت قبل ان تعرف الحقيقية، وتقرر الأم طرد الخادمة بعد ثلاثين عاما خدمت فيها العائلة، وسرعان ما تتكشف حقائق مثيرة حول الشقيقة التى انتحرت، وهى حامل، وابن الخادمة (عادل بن شريف) الذى أحبها، ورفض الأب بإصرار زواجهما حتى إنه أجبرها على مغادرة البلاد ليجهض مشروعهما تماما. جميع الممثلات كن رائعات فى ادوارهن اللاتى قدمنهن بأكثر من محور وفى اعمار وادوار مختلفة تجسد التناقضات القائمة بينهن وكان الكلام عبرهن عن قضايا تخص المرأة شيئا استثنائيا، ورغم الأجواء التى بدت كميلودراما هندية صريحة وساذجة فى بعض المشاهد رب الأسرة تزوج الخادمة، بمعرفة الأم، وأنجب منها شابا كاد يتزوج أخته لولا انتحارها بعد تدخل الأب الذى كان يعلم أنهما من صلبه!، لكن قدرتها على إيجاد معادل بصرى لقضيتها، واعتماد نوع من السرد التأملى فى ظل سيناريو جذاب وحوار لا يقع فى فخ الخطابة، وحوار يتسم بخفة الظل، وإيقاع لا يعرف الترهل، وطاقم تمثيل منسجم بدرجة كبيرة، تقدم ليلى مراكشى فيلمها تتكشف حلقات الفيلم عبر كوميديا خفيفة احيانا وسوداء احيانا اخرى شيئا فشيئا مع استكمال الاستعدادات لدفن الوالد المستمر فى الحياة والذى تأتى الحكاية على لسانه، وهو متوار يحضر طقوس الاستعدادات ويعلق عليها بعد ان يظهر انيقا وشاعريا ومحبا لكل النسوة اللواتى احطن به حيا وميتا. ليلى مراكشى ادخلت بعض عناصر الحكاية الشخصية للمرأة العربية على السيناريو، مثل الامومة والبحث عن الهوية وتقاليد العائلة فى حالات الفقدان وغيرها من المواضيع.. حيث ارادت ان تقارن ما يجرى فى فيلمها باحداث العالم العربى، فحين يختفى الاب يتغير نمط الحياة والسلوك، يعلو صوت الثورة على التقاليد التى تمثلها سلطته وموته بالنسبة للنساء كان فرصة لهن ليكن بحرية اكثر من أى وقت ويبحن بكل ما كان خفيا فبرحيله تخلت البنات عن تحفظهن، وقهرن مخاوفهن، وانطلقن يناقشن ويتكاشفن ويختلفن ويغضبن ويتبادلن الاتهامات بقسوة، وبات الأمر المؤكد أن مرحلة جديدة بدأت، وانتهى من دون رجعة عصر الخوف والانفراد بالقرار واحتكار الحكمة فالكل كان يعيش كذبة كبيرة، وربما لهذا السبب اختارت المخرجة أن تُنهى أحداث فيلمها بعقد مصالحة بين الأطراف المتصارعة، الدعوة إلى لم الشمل، وذلك بعد ان يشاء القدر للعائلة ألا تجتمع بكامل أفرادها إلا فى جنازته.