بينما كان الامريكيون والفرنسيون والبريطانيون يدفعون باتجاه التدخل العسكري في سوريا، وبينما كان الروس يعرقلون جهودهم باستمرار، كانت الصين تقف الى الخلف دون ان تقول الكثير. يقول الاستاذ كيري براون من جامعة سيدني باستراليا إن الصينيين انما كانوا يتبعون سياسة اعتمدوها منذ امد بعيد. فلأكثر من نصف قرن كانت السمة الأساسية التي سبغت السياسة الخارجية التي اتبعتها جمهورية الصين الشعبية تتلخص في مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى واحترام سيادة هذه الدول وعدم الاعتداء والتعايش السلمي. كانت هذه هي المبادئ التي وضعها رئيس الوزراء الصيني الشهير شو ان لاي في مؤتمر باندونغ الذي شهد انبثاق حركة عدم الانحياز عام 1955. شو ان لاي هو الذي وضع مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي اصبح حجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية ولكن في العقود الستة الماضية، لم تلتزم الصين حرفيا بتلك المبادئ في كل الاحوال والمناسبات، ولكنها بالمقابل لم تحد ابدا عن ابداء تأييدها اللفظي لها. ففي اواخر عهد الزعيم ماو زيدونغ دعمت الصين العديد من الحركات التحررية في العالم النامي، وفي عام 1979، تدخلت تدخلا عسكريا فعليا (وفاشلا) في فيتنام. كما خاضت الصين بين عامي 1949 و1978 حروبا مع الهند وروسيا والامريكان في كوريا. وكان مع ذلك من اليسير تعليل هذه التدخلات بالقول إن الصين كانت معزولة وفي حالة دفاع ضد الولاياتالمتحدة و(منذ الخمسينيات) الاتحاد السوفييتي. وكانت الصين تعيش في خوف دائم، وكان عليها الاستعداد للرد وبقوة اذا كان لها ان تتجنب الانجرار الى موقع الخضوع المهين الذي خبرته ابان "قرن الاذلال" الذي اعقب حرب الافيون الاولى في عام 1839 عندما استباحت القوى الغربية الصين وفرضت عليها ارادتها. القادة الصينيون الذين انتصروا في ثورتهم عام 1949 كانوا على اتم الاستعداد للقيام بكل ما يكفل عدم تكرار تلك التجربة، ولذا كانوا يردون بحزم عندما كانوا يشعرون ان مصالح بلادهم معرضة للخطر. لقد أثرت الصين في العقود الاخيرة بشكل كبير، وفي نفس الوقت جنبت نفسها مخاطر الدخول في حروب ونزاعات مسلحة، ولذا اختفى بشكل تدريجي الغموض الذي كان يلف بصورة البلد الذي كان يبدي استعدادا للدفاع عن مصالحه بشراسة ولكن في نفس الوقت يدعو الى السلم العالمي. ولكن الصين استبدلت تناقضا واحدا بآخر. المشكلة التي تواجهها الصين اليوم تتلخص في ان مجال نفوذها والاحداث التي قد تؤثر عليها قد اتسعت بشكل كبير وتجاوزت مجالها الاقليمي المباشر. فللصين اليوم استثمارات ضخمة في كافة انحاء العالم. فالاستثمارات الصينية في دول افريقية تشهد حروبا داخلية وتعاني من انتهاكات لحقوق الانسان سببت لبكين الكثير من الاحراج قبيل انطلاق اولمبياد 2008 واثرت سلبا على سمعتها وسمحت للآخرين بوصفها بالنفاق. كما تأثرت الصين سلبا بالاحداث التي مرت بليبيا قبل التدخل العسكري الغربي، مما اجبرها على سحب 36 الفا من مواطنيها كانوا يعملون في ذلك البلاد. وكذلك الحال في امريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا وبقية العالم النامي، حيث تتنامى مصالح الصين الاستثمارية وحاجتها الى المواد الخام واهميتها الاستراتيجية. ولكن القادة الصينيين ما زالوا متمسكين قدر ما يستطيعون بمبادئ التعايش السلمي وعدم التدخل التي ارسى اسسها تشو ان لاي. ورغم التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم فإن هذه المبادئ تخدم مصالح الصين لأنها تجنبها الانخراط في مواقف قد تبدد قدراتها وتجنبها خطر ان تحشر في زاوية ينظر اليها فيها على انها عدو للولايات المتحدة وباقي العالم المتطور، كما تسمح لها بمواصلة التركيز على مهمات التنمية الداخلية الكبرى التي ما زالت تواجهها. ولكن اصرار الصين على الامتناع عن اتخاذ مواقف حاسمة في قضايا السياسة الخارجية الصعبة وفي تجنب المشاكل المستعصية والمعقدة اصبح اصعب المنال، وهو ما اشار اليه مؤخرا موقفها من الازمة السورية. فكان واضحا ان الدول الاكثر تأييدا في الظروف الاعتيادية لما يسمى "بمبدأ التدخل الانساني"، كبريطانيا والاهم منها الولاياتالمتحدة، قد واجهت قيودا في الحالة السورية بسبب نفور شعوبها من الانخراط في حروب جديدة ومن عجزها في ظل الازمة المالية المستمرة على تمويل هذه المغامرات المكلفة. ولكن عجز الدول الغربية عن التدخل لا يعني ان المشكلة ستحل نفسها بنفسها او انها ستختفي بقدرة قادر. فالتزام الصين بالمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحرم استخدام الاسلحة الكيمياوية لا يقل عن التزام اي من الدول الكبرى الاخرى. وكان لتخلي الدول التي اعتادت التدخل العسكري في الدول الاخرى عن هذا المنحى في هذه الحالة - للاسباب المذكورة اعلاه - ان زاد من الضغوط على الصين وروسيا للتقدم بحلول لمشكلة الاسلحة السورية. وبينما تقدم الروس بافكار جديدة حول السبل الناجعة للتعامل مع المشكلة، تتركز الاضواء بشكل متزايد على الصين بوصفها بلدا ينبغي عليه فعل المزيد. إن النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي الذي تتمتع به الصين كبير جدا ولا يمكن تجاهله، ومن المفروغ منه تقريبا ان تجد الصين نفسها مجبرة في السنوات المقبلة على اتخاذ مواقف حاسمة في قضايا كانت في الماضي تتجنبها بوصفها تقع خارج نطاق منطقة نفوذها وبالنتيجة خارج نطاق اهتماماتها. فقوة الصين الاقتصادية في عالم اليوم تعني ان قوتها السياسية والدبلوماسية اصبحت من القوى الجديدة الأكثر تأثيرا في الشؤون الدولية. فسياسة المشي بجانب الجدار قد خدمت الصين بشكل جيد إذ جنبتها التورط في مشاكل معقدة في الشرق الاوسط وغيره من المناطق ومكنتها من بناء شبكات قوية من العلاقات مع العديد من الدوائر دون ان يؤدي بها ذلك الى الاصطدام بالولاياتالمتحدة. وقد فعلت الصين كل ما بوسعها لتجنب ان ينظر اليها كقوة موازنة للولايات المتحدة من جهة او كجزء من حلف صيني امريكي جديد (يعرف في السياسة الدولية كحلف G2). ولكن الازمة السورية برهنت انه حتى في حال اخفاق الولاياتالمتحدة وحليفاتها في ايجاد الحلول المناسبة، فإن ذلك لا يعفي الدول الاخرى من التقدم بحلول حتى وان كان ذلك لدرء المخاطر عنها فقط. وتعني حقيقة ان روسيا تقوم اليوم بالبحث بشكل فعال عن حل للمشكلة السورية انه يتوجب على الصين، وهي دولة تكره ان تكون معزولة دبلوماسيا، ان تقرر ان كان عليها السير في طريق التدخل والسبل التي ستتيح لها ذلك. وستجد الصين نفسها شاءت ام ابت مجبرة ايضا، فيما يخص المشاكل التي تقع في تخومها كالملف النووي الكوري الشمالي، على سلوك سلوكا مغايرا لسلوكها في الماضي والتصرف بخلاف شعارات عدم التدخل التي اعتنقتها لعدة عقود. الجانب الآخر لذلك طبعا هو ان على العالم ان يتوقع صين اكثر فاعلية واعلى صوتا، صين لا يمكن النظر اليها بقلق او اتهامها "بالعدوانية". وبينما ينبغي على الصين ايجاد السبل الكفيلة بتحسين ايصال رسالتها للعالم، على العالم ايضا ان يستمع الى الصين بطريقة مختلفة. هذه هي التحديات المتبادلة التي سيتسم بها عصر الدبلوماسية الجديدة التي بدا العالم بولوجه.