علينا أن ندع أمر «السعادة» للروائيين والفلاسفة وأن ننقذها من أيدى خبراء الاقتصاد وعلماء النفس، الذين يعتقدون أنه يمكن وضع رحيقها فى «علم» وترجمته إلى سياسات مواتية لجلب السعادة. وربما كان باستطاعة الحكومة فى كثير من الأحيان التخفيف من مصادر التعاسة (المجاعة والبطالة والمرض)، لكن السعادة أكثر من مجرد غياب البؤس. إذا كنا نستطيع صنع السعادة، لكان بمقدورنا أن نلغى «الحالة البشرية». وقد غاب ذلك، على نحو ما، عن علماء الاجتماع الذين يريدون جعل السعادة هدف الحكومة. وهم يرون أن الناتج الاقتصادى (الناتج المحلى الإجمالى) ليس مقياسا لكل الأشياء فى الحياة العائلة والأصدقاء أو الدين، على سبيل المثال. وهذا صحيح، لكنه لا يعنى أن «السعادة» يمكن اعتبارها بديلا عن ذلك. ●●●
ويعد «تقرير السعادة العالمى» أحدث ما طرحه هؤلاء العلماء، وهو يصنف الدول على أساس «الرفاه الشخصى» (التسمية الفنية للسعادة)، كما سجلتها استطلاعات الرأى العام.
وعلى أكثر القوائم شمولا، تأتى الولاياتالمتحدة فى المركز الحادى عشر من بين 156 دولة. وفيما يلى البلدان التى تحتل المراكز العشرة الأولى، وعدد سكانها: الدنمارك (5.6 مليون نسمة، فنلندا (5.4 مليون نسمة)، والنرويج (خمسة ملايين نسمة)، وهولندا (16.7 مليو)؛ وكندا (34.8 مليون)، وسويسرا (7.9 مليون)، والسويد (9.5 مليون)، ونيوزيلندا (4.4 مليون)، وأستراليا (22.9 مليون)، وأيرلندا (4.6 مليون).
وتشترك جميع هذه البلدان فى سمة واحدة: انخفاض عدد السكان، وصغر المساحة فيما عدا كندا وأستراليا. وتتمتع البلدان الصغيرة بميزة فى سباق السعادة. فهى أقرب إلى التجانس السكانى، مع انخفاض احتمالات الصراع العرقى والدينى والجغرافى. وهو ما يقلل حجم واحد من أكبر مصادر التعاسة. ومن بين البلدان الكبرى تأتى الولاياتالمتحدة فى المركز الأول.
والمفارقة أن أوروبا، حيث توجد أقوى الحركات المطالبة بالسعادة، تسجل انخفاضا فى مستوى السعادة بوجه عام. وعلى نفس القياس، تعتبر المملكة المتحدة (18 مليون نسمة) الدولة الأوروبية الكبيرة الرائدة، يليها إسبانيا (22 مليونا)، فرنسا (23 مليونا)، وإيطاليا (28 مليونا) وألمانيا (30 مليونا).
وربما يعكس المركز المرتفع للولايات المتحدة طابعا وطنيا. ويقول مثل روسى ذكره «بيتر ستيرنز» أستاذ التاريخ فى جامعة جورج ميسون فى مجلة هارفارد بيزنس ريفيو «الشخص الذى يبتسم كثيرا إما أحمق أو أمريكى». ويلاحظ ستيرنز أن فكرة السعادة لم تصبح مقبولة اجتماعيا إلا فى عصر التنوير، منتصف القرن الثامن عشر. فقبل ذلك، كانت العقيدة الدينية تشجع على الاستقامة المتزمتة. وقد تشكلت الثقافات الأوروبية قبل التغيير، بعكس الثقافة الأمريكية.
●●●
وتعتبر العلاقة بين النمو الاقتصادى والسعادة مثارا للجدل. ففى عام 1974، نشر الخبير الاقتصادى ريتشارد إيسترلين من جامعة جنوب كاليفورنيا دراسة تقول: (أ) تشير التقارير إلى أن الطبقة المتوسطة والغنية أكثر سعادة من الفقراء داخل كل بلد، ولكن (ب) كلما ازدادت الدول ثراء لا تظهر التقارير زيادة فى السعادة. وأطلق على هذه الفكرة «مفارقة إيسترلين». وتشير إحدى النظريات إلى أن الناس يعتادون على الدخول الأعلى، ويقارنون أنفسهم بمن حولهم. فإذا ازداد الجميع ثراء، يظل الناس أقل سعادة عند أسفل السلم.
●●●
فإذا كان النمو الاقتصادى لا يجعل الناس أكثر سعادة، فما هو المغزى؟ كثيرا ما تكون حركة السعادة مناهضة للنمو. صحيح، أن البلدان الأشد فقرا فى حاجة إلى النمو لتخفيف البؤس؛ ولكن جيفرى ساكس الخبير الاقتصادى فى جامعة كولومبيا كتب فى تقرير السعادة: «إن أنماط حياة الأغنياء تعرض حياة الفقراء للخطر». وأضاف «يسبب تغير المناخ ضررا بالفعل للمناطق الأكثر فقرا». ويبدو هذا الكلام منطقيا، ولكنه ليس كذلك فى الحقيقة، حيث يشتمل على وجهين من أوجه القصور: أولا، ربما تكون مفارقة إيسترلين غير صحيحة. فقد وجدت دراسة حديثة أجراها خبيرا الاقتصاد «ولفرز جوستين» و«بيتسى ستيفنسون» من جامعة بنسلفانيا أن ارتفاع معدل النمو الاقتصادى رفع معدلات السعادة فى معظم البلدان. وثانيا، حتى لو كانت مفارقة إيسترلين سليمة (يحدث أن يختلف خبراء الاقتصاد فيما بينهم)، فالنمو أمر ضرورى للحفاظ على السعادة القائمة.
ولننظر إلى الاتحاد الأوروبى، ارتفع معدل البطالة إلى 10.2 فى المائة مع تراجع النمو. ويقول تقرير السعادة: إن البطالة تخفض مستوى المعيشة من خلال انخفاض الدخل و«فقدان المكانة الاجتماعية، واحترام الذات، (و) الحياة الاجتماعية التى يخلقها مكان العمل».
●●●
وبينما تحاول جميع المجتمعات الغنية تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية والأمن والتقدم البيئى. فإن حركة السعادة لا تفرض سوى مزيد من التدخل. ويقول «مارك دو فو»، من معهد إترنا البلجيكى للأبحاث: «دورها يتلخص فى دفع الساسة المتحمسين إلى ضبط أوضاع الباقين ضمن فكرتهم عن السعادة». كما أن خلق هدف مستحيل تحقيق السعادة الشاملة يصم الحكومة بالفشل. فالسعادة تتوقف على أمور كثيرة لا يمكن التحكم فيها. وجميعنا نعرف أناسا يبدو أنهم يحيون حياة منعمة؛ زواج مستقر، أطفال أصحاء، عمل ناجح، غير أنهم متوترون، ساخطون ومكتئبون أحيانا. وفى نفس الوقت، هناك آخرون مبتلون بسوء الحظ المرض، واضطراب الأمور المالية، والإحباط العائلى، غير أنهم يتمتعون بالمثابرة ويحتفظون بتفاؤلهم. والتناقضات كثيرة. ويقول تقرير السعادة: إن الحرية، بمعنى القدرة على الاختيار، لازمة أيضا للحياة الكريمة. غير أن الحرية تتيح للناس القيام بأشياء مدمرة ذاتيا، مما يقلص السعادة.
●●●
وربما يكون «البحث عن السعادة» حقا، كما يقول إعلان الاستقلال. لكن تحقيق السعادة ليس استحقاقا. وتعتبر الحركة من أجل السعادة مثالية على أحسن الفروض، وهى سخيفة وقمعية وفقا لأسوأها