لقد اختارت حياة الرهبنة! بعد أن ارتدت جومانة، 30 عاما، النقاب الذى يصل وزنه أكثر من 5 كجم، فرضت على نفسها مجموعة من القيود حتى لا تعانى من مستلزمات الزى الجديد . هي ابنة إحدى الأسر الثرية و المتدينة " تدين ال 60 " على حد تعبيرها، أى أنهم يهتمون بالأخلاقيات أكثر من المظاهر، إلا أن " الإناء ينضح بما فيه، فالمظهر مهم جدا بالنسبة للمرأة المسلمة ". ولأن عائلتها الممتدة التى تعيش معها بعد انفصالها عن زوجها لا تقدر كثيرا هذا الزى(أى النقاب) فقد قررت جومانة أن تنسحب بهدوء من حياتهم بل أيضا من حياة أسرتها الصغيرة . فى شقتها الموجودة بحى مدينة نصر تختبىء خلف جدران أربعة تماما كما تخفى وجهها خلف هذا الغطاء السميك الذى لا يظهر سوى عينيها العسليتين- وسيلة اتصالها الوحيدة بالعالم الخارجى. قائمة ممنوعات طويلة فرضتها على أفراد البيت حتى على الخادمة التى تتردد عليها. فهناك قنوات فضائية محددة مسموح بها داخل البيت و هى تلك التى تبث القرآن الكريم أو الموضوعات الدينية بعد أن تكون قد راجعت أكثر من مرة الحلقات الخاصة بمجموعة من المشايخ و تأكدت من عدم احتوائها على معلومات مغلوطة . لقد ولى –بالنسبة لها- عهد الموسيقى و الغناء من تاريخ ارتداؤها للنقاب أى منذ تسع سنوات . حتى الألعاب التى تختارها لأبنها الصغير و أفلام الكارتون يجب ألا تصاحبها أبدا " مزامير الشيطان " على حد تعبيرها . بل و إنها لا تسمح لابنها أن يزور أحد الأقارب إذا ثبت أنه لا سمح الله يسمع الأغانى فى منزله لأنها ببساطة تريد لولدها تربية إسلامية بحتة .فقد أجبرت الصغير الذى لم يتعد عمره أربعة سنوات على التحدث بالفصحى لأنها لغة القرآن التى يجب ولابد أن يتقنها. اختيارها لسراويل طفلها ليست متروكة لمحض الصدفة ، لكنها يجب أن تغطى الركبة حتى يكون الزى شرعيا . أما الخادمة فلا يسمح لها أن تدخل البيت إلا إذا كانت ترتدى العباءة السوداء على الأقل فهذه هى تأشيرة مرور باب المنزل. الرجال ؟ أصبحوا بالنسبة لها مخلوقات من عالم آخر . فالاختلاط ممنوع، غض البصر هو الواجب كما أن صوت المرأة عبر الهاتف عورة. فجومانة لا تتحدث إلا مع المحارم و إذا أراد احد أزواج خالتها أو عماتها محادثتها فإنها تعطى سماعة الهاتف لأخيها كى ينقل الرد بدلا منها. كذلك تتفادى جومانة التواجد فى نفس المصعد مع أفراد العائلة من الرجال فى حالة عدم وجود محارم كى لا تضطر لإحراجه بعدم الرد . رغم الضغوط التى تعرضت لها السيدة من عائلتها للعدول عن " تشددها " على حد تعبيرهم و رغم محاولات والدها المستميتة لإرجاعها عن قرار النقاب إلا أنها لم تأبه بكل المحاولات و اكتفت بتكرار عبارتها الأثيرة: " لهم دينكم و لى دينى " . فلقد استحضر لها أفراد عائلتها فتاوى من شيخ الأزهر السابق فضيلة الشيخ / جاد الحق المعروف بتشدده بأن النقاب ليس فرضا إلا فى وقت الفتنة . كما أحضر لها مؤلفات الشيخ الغزالى رحمه الله الذى لا يحبذ فيها ارتداء النقاب لأنه وفقا لرأيه يعزل المرأة المسلمة عن المشاركة فى بناء المجتمع . إلا أن " جوجو " كما يناديها أصدقاؤها المقربين لم ترفع قط الراية البيضاء و سارت على دربها ضاربة عرض الحائط بكل هذه الأراء، قائلة: " الأنبياء و أصحاب الرسالات تعرضوا لاضطهاد كبير فى بداية دعواتهم التبشيرية" . و قد وصل الأمر إلى طريق مسدود بينها و بين والدها بعد حضور الصالونات الدينية عندما صارحته بأنها لا تقتنع بآراء الغزالى و الشعراوى ولا فتاوى الأزهر و دار الإفتاء . " لى مكتبة خاصة أرجع إليها مكونة من أمهات الكتب لعلماء أجلاء من أمثال بن كثير و البخارى و مسلم و غيرهم، هؤلاء كان فهمهم للدين أعمق و أقرب للصواب " هكذا تلخص جمانة فلسفتها . ذكاء "جوجو" الحاد يمتزج بدماغ كالصخر، هى موهوبة بدرجة كبيرة، تتقن اللغة الإنجليزية و تنظم بها الشعر. كان ذلك قبل " أن تلتزم " على حد تعبيرها. مزيج من الثقافة الأنجلوساكسونية و الإسلامية، و ما بين اثنين شعرت جومانة كأنها كرة راكيت بين مضربى لاعبين محترفين . أنهت دراستها بإحدى المدارس الدولية ثم التحقت بالجامعة الأمريكية. " كنت مبهورة بالنموذج الأمريكى : الحرية و الانطلاق و العلم . مارد جبار أخذنى لوهلة لكنه لم يستطع أن يداوى الفراغ النفسى الذى كنت أشعر به. كان الخوف دائما يلازمنى و لكننى لم أكن أبدا أعرف السبب ". بعد أن فقد والدها كل ما يملك فجأة فى أعقاب حرب الخليج و كان عليه أن ينتظر سنوات ليحصل على تعويض مناسب بعد سلب أمواله و ممتلكاته بالكامل، و ربما كان السبب فى قلقها الدائم هو موت أمها المفاجئ أو ربما لأنها ببساطة لم تجد نفسها فى كل الأعمال التى قامت بها . "كنت أشعر إنى تافهة وسط عالم الأسرة المحافظة و المتدينة نسبيا و عالم المدرسة المتحرر كثيرا من القيود". عاشت جومانة حياة الصعلكة لفترة، كانت تشعر أن الحياة تجربة لابد أن تفعل فيها كل شئ حتى تتعلم . تسكعت فى الديسكوهات، خالطت الغرب كثيرا لكن " الخوف ظل يكبر بداخلى ". ثم تحكى جومانة عن ذلك اليوم الذى قررت فيه أن تحدث إنقلابا فى حياتها. " سقطت فى حفرة و أنا فى رحلة مع زملائى . حاولوا مساعدتى لكنهم لم يتمكنوا فانصرفوا عنى و هم يعتقدون أننى أمزح . شعرت بألم رهيب ولم يحس بى أحد . أحسست أن ذلك نذيرا من الله . و أننى فى القبر سأكون وحدى فى هذا المكان الموحش و سأقف بين يدى الله ليسألنى عن ما فعلت فى حياتى " . كانت هذه الحادثة هى السبب وراء إرتدائها الحجاب العادى أو البسيط و لكنها لم تنتظر طويلا، فبعد أن قرأت فى الدين أكثر أرادت أن تكون أكثر تميزا عن الأخريات. تغيرت أفكارها و تركت الجامعة الأمريكية لأنها كانت تدرس بها "موادا بها شبهة الربا" على حد تعبيرها و التحقت بالأزهر الشريف لتعلم الدراسات الفقهية . ولم يعد فتى أحلامها هو الشاب الوسيم الذى يشبه أحمد السقا أو عز الدين صاحب السيارة ال B.M الفارهة لكنها أصبحت تحلم بفارس الأحلام الذى ستختاره من بين المجاهدين الأفغان أو الملا عمر شخصيا . فالفارس الذى تنتظره قد يكون حتى من تنظيم القاعدة! فجمانة تحب أن تصل بإيمانها و أحلامها إلى الذروة و لديها قدرة على الإقناع قد تشكك الآخرين فى نفسهم. تركيبتها بين الثورية و المرونة مكنتها من تغيير حياتها بين يوم و ليلة. أصدقاؤها القدامى محت أرقامهم من على هاتفها الذى قامت بتغيير رقمه. عزلت نفسها عن كل من هم – فى رأيها- أقل تدينا، فهى دائما تردد: " إحنا وهما " أى " الملتزمين و غير الملتزمين" . لم تعد تذهب إلى النوادى أو الأماكن العامة المختلطة التى قد تضطر فيها أن تكشف عن وجهها لتأكل أو تتناول وجبة. كما قامت بتقسيم منزلها إلى حجرات منفصلة حتى تكون على حريتها فى حالة وجود زوارا . أجندة جومانة اليومية مشحونة بلقاءات الصالونات الدينية التى تلقى أو تتلقى خلالها دروسا، أفراح إسلامية أو خروجات نسائية بحتة فى صحبة شلتها الجديدة . هى أيضا تقضى وقتا طويلا على الإنترنت حيث تتجاذب الأحاديث الدينية من خلال المنتديات أو ربما تدخل فى مشادة كلامية مع المواقع الشيعية أو الصوفية. توضح جومانة: " اليوم أصبحت أكثر ثقة بنفسى، أحاول أن أخذ بجوهر الحضارة الأوربية و الأمريكية و أحاول تطويعها لأفيد دينى و نشر تعاليمه. عندما أسعى لإلقاء كلمة مثلا اتبع مناهج البحث التى تعلمتها، استثير قدراتى الشعرية السابقة فى تحضير محاضرة أو درس أنا الآن وجدت سلامى المفقود , رسيت على بر الأمان بعد رحلة طويلة كدت أن اتوه فى دروبها " . بمرور السنوات اعتادت جومانة على زيها و أصبح جزءا لا يتجزأ عن شخصيتها الجديدة، لم يعد يضايقها أن ترى الحياة فقط من ثقبين و لا أن تخرج فى أضيق الحدود أثناء الصيف حتى لا تشعر بوطأة الملابس الثقيلة التى يصل وزنها إلى ثلاث أو خمس كيلوات فى بعض الأحيان. فقط تكتفى بالقول: " ثقل الملابس و الحر أفضل من نار جهنم!"