برحيل الدكتور يونان لبيب رزق والدكتور رءوف عباس ظن البعض أن معين المؤرخين فى مصر قد نضب، لكن فى حقيقة الأمر لا، لم ينضب بل إنه يتدفق بجيل جديد لا يحتاج سوى الفرصة لكى يعرفه الرأى العام، لدينا فى مصر جيل جديد شاب من المؤرخين، نراه يصعد رويدا رويدا، لأسباب عديدة . مناخ الحرية النسبى الذى تتمتع به مصر، والذى أغلق فكرة الأستاذ الإله فى الجامعة الذى لا يناقش ولا يستطيع الطالب أن يطرح عليه قضية للمناقشة يبدى فيها رأيه بصراحة وإن خالف رأى الأستاذ. ترتب على مناخ الحرية النسبى أن النظام السياسى لم يعد يفرض منهجية محددة فى مجال الدراسات التاريخية، فلم يعد أساتذة التاريخ ملتزمين بوجهات نظر محددة كالولاء للأسرة المالكة أو لأفكار ورؤى ثورة 23 يوليو. ظهور جيل من المؤرخين عددهم قليل لكن أتاحوا الفرصة للآخرين لكى يقدموا أنفسهم ليست لديهم أنانية البعض، هؤلاء منهم دكتور خالد فهمى، ودكتور محمد عفيفى وغيرهما. إن نظرة الأجيال الجديدة للتاريخ تأتى من دائرة أوسع، فهم يؤمنون بأهمية العلوم البينية، مثل التى تتقاطع مع التاريخ كالأنثربولوجى والآثار والاجتماع والاقتصاد، بل إننا رأينا ممن يتخصصون فى تكنولوجيا المعلومات يذهبون أحيانا للتأريخ لتكنولوجيا المعلومات، فكأنه يتقمص دور المؤرخ، هذا نتج عن أن المادة التاريخية صارت رقعتها أوسع بكثير كنتاج طبيعى لتقدم وسائل حفظ المعلومات، فلم يعد التاريخ تقتصر مصادره على حوليات المؤرخين، بل صار يشمل الآلة البخارية مثلا التى غيرت من تعامل الإنسان مع الآلة، وحولت الإنتاج من اليدوى إلى الكمى، كما أن التلغراف دشن عصر الاتصالات فصارت الأخبار كلما تقدمت وسائل الاتصال زادت سرعة انتقالها، فهل يعد تاريخ الاتصالات حاسما لدى المؤرخين وله دور مؤثر فى الحروب والحراك السياسى. السيمنارات التاريخية وأبرزها سيمنار الدراسات العثمانية الذى أتاح الفرصة لعدد كبير من الشباب لكى يناقش إنتاجه العلمى، فكان بمثابة الحضانة الأولى لأجيال جديدة. سلسلة تاريخ المصريين التى أسسها الدكتور عبدالعظيم رمضان والتى نشرت رسائل ماجستير ودكتوراه وأبحاث لباحثين مغمورين فصارت هى بمثابة أداة لتقديمهم على نطاق أوسع. نقف هنا أمام حدث مهم هو المنتدى السابع للتوثيق والتأريخ الاقتصادى، الذي عقد فى الفترة من 22 إلى 25 مايو 2010، بمشاركة عدد من المؤسسات منها مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية، والمجلس الأعلى للثقافة، والمركز القومى للترجمة وغيرها. فى هذا المنتدى خصص قسم كبير منه للمؤرخين الشباب من مصر وخارجها، منهم كريم خشبة الذى قدم ورقة مثيرة تحت عنوان «الشباب المصرى: تأملات فى قضايا الهوية» فهو يرى أن هناك التواءات والتباسات فيما نفترض أنه الهوية المصرية، وخصوصا بين الشباب، فنحن نرى عددا كبيرا من الشباب المصريين الذين يشعرون بارتياح فى اتباع طريقة الحياة الغربية فيما يرفضها آخرون فى مجملها. وفى جانب آخر نرى شبابا يتبعون هذين الأسلوبين فى المعيشة ولكن بطريقة متعارضة وغير متجانسة، وهناك الكثير من المظاهر تعبر عن ذلك: الملابس، المأكل، التعبير عن النفس، والممارسات اليومية الاجتماعية والدينية. ويضيف كريم أنه بالإضافة إلى ذلك يوجد الجانب الافتراضى من هذا الموضوع، فالإنترنت بكل التفاعلات الاجتماعية والمشاركة فى الفضاء الافتراضى الذى تحتفل به يوفران للشباب الفرصة لاتخاذ شخصيات مزدوجة متعددة. خصوصا أن الأنشطة الافتراضية (الثقافية الاجتماعية السياسية) تحظى باهتمام متزايد. تعرض هذا البحث لمشكلة الالتباس فى الهوية، وتعامل معها من منطلق أن هناك هويتين افتراضيتين، وهما أولا الاستمرارية والتغيير فيما يفترض أن تكون هوية الشباب المصرى هى الصورة التى يراها المصرى عن نفسه، وثانيا مظاهر هذه الهويات الافتراضية فى المجال الافتراضى. ما يميز هذا البحث أنه نتاج فريق بحثى ضم بالإضافة إلى كريم خشبة، آية نصار، دينا توفيق، صلاح الرشيدى، يسرا طه. بينما قدمت فريدة مقار بحثا عن «موسيقى البيتلز ومصر الستينيات «حيث يدرك عشاق البيتلز المصريون جيدا أن الفرقة لم تقدم عروضا فى مصر فى الستينيات وهى فى أوج شهرتها. ورغم ذلك فإنه بالنسبة إلى الكثيرين من المصريين الذين نشأوا فى البيئة الناصرية «المحكومة» فإن البيتلز، الذين كانوا يعرفون بالاسم العربى «الخنافس» لم يكونوا غرباء أو غير معروفين. وفى الحقيقة فإنه كان واضحا أن الكثير من المصريين كان لديهم معرفة متجددة ودائمة عن آخر شرائط البيتلز وموضات الشعر التى اشتهروا بها وأخبارهم. والغرض من هذا البحث استكشاف المدى الذى استطاع فيه البيتلز، كظاهرة ثقافية حطمت الأرقام القياسية فى المجتمع الغربى فى الستينيات، اختراق وسائل الإعلام التى كانت تسيطر عليها الحكومة فى الحقبة الناصرية. ويحاول البحث أساسا الإجابة عن أسئلة مثل: هل كانت قاعدة عشاق الفرقة من المصريين ذات وزن ذى مغزى؟ لماذا؟ ما أقسام المجتمع المصرى التى كانت تشكل جزءا من قاعدة العشاق؟ هل حاول نظام ناصر فرض رقابة على أى من موسيقى البيتلز فى أى وقت؟ هل نظرت الدولة إلى البيتلز وما يمثلونه فى إطار الثورة الثقافية باعتباره خطرا؟ هل ساهم البيتلز فى إحداث نفس التغييرات فى الثقافة المصرية أو تغييرات مماثلة لما أحدثوه فى بقية أنحاء العالم؟ لماذا؟ ما الطرق التى تأثر بها المجتمع المصرى «بظاهرة البيتلز»؟ وقد حاولت فريدة مقار البحث عن إجابة الأسئلة بالاعتماد أساسا على المجلات والصحف الصادرة فى هذا الوقت. وستكون هناك محاولات لإجراء أحاديث والنظر إلى سجلات الإذاعة فى هذا الوقت لتقييم معدل إذاعة موسيقى البيتلز وتأثيرها فى مصر. وكان البحث فى مرحلة العمل فى إطار مستمر حينما انعقد مؤتمر الباحثين الشباب. وقدمت سارة السايح «تأملات أدبية فى مصر عبد الناصر». فقد كان نجيب محفوظ من أبرز الكتاب المصريين وواحدا من هؤلاء الذين تمكنوا بشكل فعال ومؤثر من تعرية المجتمع والبلد بأسره فى القصص التى كتبها خلال عقد الستينيات. ومن بين أعماله المختلفة فإن القصة التى وقع الاختيار عليها «ميرامار» الذى رسم فيها نوعيات وأنماطا مختلفة من الشخصيات الموجودة فى المجتمع ولآرائهم حول الثورة ورد فعلهم تجاهها. ومن ناحية أخرى فإن وجيه غالى وكان واحدا من أبناء الصفوة السابقة، كان ينتمى لأسرة بطرس غالى سكرتير عام الأممالمتحدة الأسبق، فقد كتب فى قصة فى سلسلة باللغة الإنجليزية تم نشرها فى عام 1964 بلندن تحت عنوان «بيرة فى نادى البلياردو» التى تتناول الصراعات والصعوبات التى واجهها مع الطبقة التى كان ينتمى لها خلال هذا الوقت، وقد تخلص من حياته منتحرا. ومن خلال الاقتباس من الطبقة المتوسطة وأدب الحراك الاجتماعى، فقد قامت سارة بتحليل رؤية تلك الطبقة الجديدة التى أوجدتها ثورة ناصر وآثار تصفية الطبقات التى كانت موجودة قبل الثورة فى فن الأدب الذى ميز تلك الفترة. وفى الأساس فقد استند بدرجة كبيرة إلى أعمال جمال حمدان وبهاء أبولبان الداعمة له ولهذا المنحنى البحثى الأدبى باعتباره شاهدا على العصر. تحكى قصة وجيه غالى قصة صديقتين وصل بهما السأم من الحياة بالقاهرة خلال العصر الناصرى فتوجها إلى لندن ولكنهما شعرا بالغربة من جو التأنق والتكلف الشديد والحنكة والثقافة الرفيعة الذى أحاط بهما من كل اتجاه فعادا إلى القاهرة ولكنهما وجدا صعوبة فى التأقلم والتكيف وبخاصة فى علاقتهما بالجنس الآخر. والقصة قد تمثل صدى لرؤية توفيق الحكيم فى «عصفور من الشرق» وغيره من الأدباء مثل يحيى حقى.