أظهرت ردود أفعال دول العالم على المجزرة الإسرائيلية ضد ناشطي قافلة الحرية مدى تأثير كل منها وقوتها عالميا. فقد كتب آليستير كروك، ضابط المخابرات البريطانية السابق، في صحيفة هيرالد تريبيون الدولية واصفا نبرة رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، بأنها كانت غاضبة وقوية وعالية، وهددت فيها تركيا بقطع العلاقات مع إسرائيل، وربما بتصعيد عسكري أيضا، بسبب ما حدث من قتل للناشطين التركيين والعرب على متن سفينة مرمرة التابعة لقافلة الحرية. واقتبس كروك من مقال عبد الباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة القدس العربي، ما قاله الأخير عندما شبه لغة أردوغان باللغة التي كان يستخدمها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، موضحا أن ذلك الموقف الرجولي واستخدام لغة الخطابة الغاضبة الشجاعة اختلف تماما عن موقف الدول العربية وحكامها الذين كانوا أشبه بأصدقاء إسرائيل أثناء الأزمة. وما من شك أن عطوان كان يقصد الرئيس حسني مبارك عندما تحدث عن موقف الدول العربية المهادن لإسرائيل، وربما أدى الضغط الدولي والشعبي على نظام الرئيس مبارك، بالإضافة إلى وسائل الإعلام، إلى أن يضطر في النهاية إلى فتح معبر رفح لأجل غير مسمى للتخفيف عن شعب غزة المحاصر منذ 3 سنوات. وأوضح كروك إلى أن ما حدث يعتبر خطوة فاصلة في التحول الاستراتيجي لموازين القوى في الشرق الأوسط. ويبدو أن قضية فلسطين تمر من بين أصابع كل من الرئيس مبارك وملك السعودية عبد الله باتجاه أصابع إيران وتركيا، ومعهما سوريا، فقد أصبحت الدول الثلاث قادرة على إدراك أسباب التغيير في المنطقة، أكثر من مبارك الذي يبدو منعزلا بمصر، بعد اعتباره حليفاً لإسرائيل. الحصار مقابل التوريث! وأشار كروك إلى أن أهداف مبارك من دعم إسرائيل واضحة لكل المنطقة، فهو يضمن بهذا موافقة أمريكا على توريث الحكم لنجله جمال مبارك، وهو يعرف جيدا أن تحقيق هذا الهدف يكمن أساسا في أروقة تل أبيب، أكثر من البيت الأبيض بواشنطن. فمبارك لا يتمتع بقدر كبير من الدعم في الولاياتالمتحدة، والحالة الوحيدة التي يمكن أن تتجاهل واشنطن فيها مبادئها الديمقراطية لتساند جمال مبارك في الوصول للحكم هو أن يكون في ذلك مصلحة لإسرائيل، وحماية لأمنها وأغراضها في المنطقة. ويرى كروك أن مبارك يهدف إلى إضعاف وجود حماس في غزة، بينما يساند الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهذا ما جاء على حساب الوحدة الفلسطينية نفسها، وهو ما يأخذه الكثيرون على ورقة المصالحة التي تقدمها مصر لحل المشكلة الفلسطينية، التي شبهها الكاتب بالسمسرة التي تعقد الموقف أكثر مما تصل به إلى نتيجة مرضية. و الغريب أن كل ما فعلته مصر هو الذي أدى في النهاية إلى تعاظم الدور الإيراني والتركي في القضية الفلسطينية، حيث ينبع رد فعل تركيا الحاد على الاعتداء الإسرائيلي الأخير عن اقتناع عام عالمي بأن عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية فشلت تماما، وأن هناك انشقاقا عميقا في المنطقة. ويعتقد كروك أن دعائم عملية السلام المزعومة انهارت جميعها، لأن الإسرائيليين أصبحوا لا يصدقون أن اتفاقية أوسلو "الأرض مقابل السلام" يمكنها أن تحقق لهم الأمان، بل أصبحوا يعتقدون أن أي انسحاب لن يحقق لهم سوى المزيد من صواريخ حماس. تركيا الأوروبية تحتل مكانة مصر في الشرق الأوسط إن مصر ليس لديها الآن سوى تاريخها القديم، وقت أن كان لها ثقلها الملحوظ في الشرق الأوسط لتعتمد عليه، لكنها ما زالت ترفض التدخل لتستعيد مكانتها المفقودة، حتى بعد أن تغيرت الظروف وأصبحت سوريا وتركيا وإيران وقطر ولبنان أهم الدول المؤثرة والفاعلة في كل قضايا المنطقة. وما يجعل مبارك له يد في القضية الفلسطينية هو مشاركة مصر في الحصار على غزة، الأمر الذي شجعه الرئيس الفلسطيني عباس في الضفة الغربية، لأن كلا من مبارك وعباس لديهما نفس الهدف، وهو إضعاف قوة حماس. في الوقت نفسه تبدو أواصر الرابطة العربية غير واضحة، فقد أيدت جامعة الدول العربية تركيا في أي رد فعل قانوني قد تتخذه ضد إسرائيل، كما طالبت الدول العربية بالضغط على إسرائيل لإنهاء الحصار على غزة. لكن على الجانب الآخر، لا يعتد العالم كثيرا بتلك الجامعة ولا بآرائها، وكل ما أوضحته تصريحاتها هو أن العالم العربي يتجه الآن لتركيا بدلا من مصر. وأكد كروك أن مصر والسعودية أصبحتا في موقف حرج الآن، خاصة أمام شعوبهما. لأن كلا البلدين تتوليان قيادة العالم العربي، والآن دخلت دولة أوروبية كتركيا في الحسبان لتسحب من تحت أرجلهما بساط القيادة. والمعروف أن كلتا الدولتين استخدمتا ذريعة المشاركة في عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية لمدة 20 عاما في كبح جماح المعارضة الداخلية، لكن الوضع الآن اختلف، وأصبحت مصر والسعودية معرضتين للسخرية والنقد من الداخل والخارج. هذه هي مأساة مبارك التي تحيره -على حد وصف كروك- أن يشارك في الحصار على أمل أن تكافئه واشنطن بتوريث جمال ابنه الحكم، لكنه يضطر إلى مواجهة أمواج الغضب الداخلية التي تطالب بالتغيير وفك الحصار على غزة. وفي كل الأحوال، أصبح من الواضح أن سيطرة مصر على ملف القضية الفلسطينية أقل بكثير مما كانت عليه، وربما لن يصبح لمصر دور في حل القضية في المستقبل.