جاء المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط، جورج ميتشل، وذهب مرة أخرى، ومازالت محادثات السلام معلقة. وقال المعلق الإسرائيلى يوسى ساريد إن «النزاع الإسرائيلى الفلسطينى ثقب أسود يبتلع سفراء النوايا الحسنة على مر العصور». ولا يمكننى أن أجادل فى هذا. فالحروب الباردة جاءت وذهبت، والتقنيات الجديدة تغير العالم، لكن الصدام بين الصهيونية والقومية الفلسطينية مازال عصيا على الحل. وحتى الآن، لايزال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يعتقد أن الفلسطينيين «فوق شجرة» (شجرة كافور تحديدا)، بينما يرى الفلسطينيون فى نتنياهو شخصا مستأسدا مخادعا (يصف صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين نبرته بأنها «تعال هنا يا ولد، نحن نعرف ما يفيدك أكثر منك». فهل أنا مازلت أشعر بالتفاؤل؟ اعترف بأننى كذلك أو بالأحرى، خفت حالة اليأس الكامل من «عملية السلام» التى كنت أشعر به عندما حضرت إلى إسرائيل. إن هذا ليس تفاؤلا بحق، بل نعمة بسيطة من نعم الشرق الأوسط. لم تكن رحلة ميتشل عقيمة. وما أفهمه هو أن محادثات غير مباشرة ستستأنف الشهر المقبل، يتولى فريق ميتشل خلالها نقل وجهات النظر بين الطرفين. وستمتنع إسرائيل عن الاستفزازات من نوع رامات شلومو (التخطيط لبناء 1600 وحدة سكنية فى القدسالشرقية) وتتعهد بموقف موضوعى، فيما يتصل بمسألة الحدود قبل كل شىء. كما سيتعهد الفلسطينيون بالتحلى بالوضوح التام. لكن هذا ليس هو سبب اعتدال مزاجى، فمن الصعب الاحتفاء بمحادثات غير مباشرة فى وقت يعقد فيه الفلسطينيون والإسرائيليون لقاءات مباشرة. وقد وضعت يدى على ثلاثة تطورات. أولها أوباما. وثانيها، فياض. والثالث، هو ما يدعوه دانى ايالون، وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية، «حبة السم المطلية بالسكر» للوضع الراهن فى إسرائيل. وسأتناول هذا كله بالترتيب. فى الأسبوع الماضى، تلقى الرئيس الفلسطينى محمود عباس خطابا من الرئيس باراك أوباما. وفهمت منه أن الرئيس أوباما تحدث عن التزامه القوى وهو التزام غير مسبوق بتحقيق السلام القائم على الدولتين وقال إن إسرائيل إذا قوضت الثقة بشدة بين الطرفين، فإن الولاياتالمتحدة لن تقف فى وجه قرار من الأممالمتحدة يدين هذا. وليس هناك تعريف أمريكى لما تعنيه الأفعال التى يمكن أن تقوض الثقة، وهو ما دعا عريقات، فى اجتماعه بميتشل الجمعة الماضى، إلى الإلحاح على توضيح ما تعنيه «الأعمال الاستفزازية» من جانب إسرائيل. لكن من الواضح أن أى انتقام لهزيمة رامات شلومو، التى أثارت غضب أوباما، سيقابل بإجراءات أمريكية. والخلاصة أن على إسرائيل وقف البناء، ووقف المناقصات، والامتناع عن أى أعمال استفزازية أخرى خلال جولات ميتشل. وقد أعاد أوباما تقييم الدبلوماسية الأمريكية حيال الشرق الأوسط بصورة جذرية. وهو يتلقى الضربات من كل اتجاه لكنه سيواصل المسيرة لأنه رجل واقعى ولأن الجنود أبلغوه بأنه نظرا لوجود أكثر من 200 ألف جندى أمريكى فى بلاد إسلامية، فإن عيش الإسرائيليين والفلسطينيين جنبا إلى جنب فى سلام يشكل مصلحة حيوية للأمن القومى الأمريكى. فحساب الربح والخسارة، وليس الضمير هو الذى يوجه السياسة. وهناك تغير حقيقى أيضا فى فلسطين الناشئة. ويعد سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطينى، أهم ظاهرة فى الشرق الوسط. وهو مهووس بالأمن نراه فى هيئة شرطة السلطة الفلسطينية الموجودة فى كل مكان من الضفة الغربية وببناء مؤسسات الدولة واقتصادها. وهو غير مهتم بصورة الفلسطينى «الضحية». وهو لا يقف كثيرا عند الماضى. فهو يتطلع إلى المستقبل. ويؤمن بالوسائل غير العنيفة لتحقيق الهدف. وهو يتلقى المساعدات من نتنياهو فى مجال الاقتصاد (لكنه يحتاج إلى المزيد) والتعاون الأمنى متواصل بين الجانبين. وبمضى الوقت، يمكن لفياض أن يطمئن الإسرائيليين إلى وجود دولة يعتمد عليها على حدودهم، لا حصان طروادة إيرانى. وبناء المؤسسات الفلسطينية هو أفضل رد على مقولة «عدم وجود شريك» التى تتذرع بها إسرائيل. وفى داخل إسرائيل، من شأن الاقتصاد المزدهر والطمأنينة التى تسودها يوما بعد يوم إبعاد السلام من رأس قائمة الأولويات. لكن استطلاعات الرأى تظهر وجود أغلبية ترى أن البلاد تسير فى الطريق الخطأ، ولا يمكن رد هذا إلى انتشار فضائح الفساد وحده. وكما أخبرنى أيالون، ف«ليس لنا حدود شرقية». والبلاد التى ليس لها حدود محددة تعتقد فى اللحظات الصعبة أنها تسير فى الاتجاه الصحيح. وهذا يجعلنى أشعر بأن نتنياهو مهتم بالانتقال من الوضع القائم إلى وضع نهائى، بالرغم من حماس وأشرطة الفيديو القذرة عن الجندى المخطوف جلعاد شاليط. وميتشل مؤمن بهذا. وقد سئل خلال زيارته، حسب المذكرات التى اطلعت عليها، عن نتنياهو، فأجاب: «أعتقد أن نتنياهو جاد فى التوصل إلى اتفاق، وقادر على هذا ومهتم به. لكننى لا أستطيع الجزم بنيته الموافقة على المطلوب لضمان التوصل إلى هذا الاتفاق». وأنهى ميتشل الاجتماع بقوله: «أنتم تسألوننى إن كان نتنياهو جادا. وهم يسألوننى نفس السؤال. وأنتم أكثر خبرة منى فى الشئون الفلسطينية والإسرائيلية. وهم كذلك. لكن لا أحد فى العالم يعرف السياسة الأمريكية أفضل منى، وهذا ما سأقوله. لم يقم فى البيت الأبيض قط رئيس أكثر التزاما بهذه المسألة، بمن فى ذلك كلينتون وهو صديق شخصى، ولن يكون هناك رئيس أبدا، على الأقل فى حياة الحاضرين فى هذه القاعة». فلا تستسلموا حتى وإن قال التاريخ، وحماس، إن السلام أضغاث أحلام وأن ميتشل على وشك دخول ذلك «الثقب الأسود».