على الرغم من أن أداء أمريكا اللاتينية كان جيدا نسبيا أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن المنطقة فى حقيقة الأمر تواجه أزمة نمو. وبينما تتعافى المنطقة من الأزمة، ويقترب إجمالى الناتج المحلى لديها من 4 5%، تشعر البنوك المركزية بالقلق إزاء الضغوط التضخمية، مما جعلها تبدأ فى مناقشة القيام برفع أسعار الفائدة، بهدف الحد من الطلب الكلى. ومن المرجح أن يكون إجمالى الناتج المحلى المحتمل منخفضا أكثر مما يجب بالنسبة لمنطقة مازال الفقر والبطالة بها يمثلان مشكلات كبرى. لا تعد مشكلة النمو أمرا جديدا بالنسبة لأمريكا اللاتينية. ذلك أنه وفقا لقاعدة البيانات التاريخية التى أنشأها ماديسون (عام 2003)، ظل متوسط نمو إجمالى الناتج المحلى بالنسبة للفرد فى أمريكا اللاتينية أقل من نظيره فى الولاياتالمتحدة منذ عام 1700 على الأقل. فعلى سبيل المثال، فإنه بين عامى 1980 و2000 بلغ متوسط نمو الدخل الفردى فى أمريكا اللاتينية 0.4%، مقابل 2% فى الولاياتالمتحدة. إن المشكلة لا تقتصر على المقارنة بالولاياتالمتحدة، إنما ما قد يدعو إلى المزيد من القلق هو أن نسبة الانحراف الاقتصادى فى أمريكا اللاتينية مقارنة ببقية العالم باستثناء أفريقيا أصبحت أكثر سوءا خلال العقود الأخيرة. كى نفهم المشكلة إلى حد ما، فإن الاقتصاديين عادة ما يطبقون طريقة لتحليل النمو تفصل بين مساهمة رأس المال المادى ورأس المال البشرى. ويطلق على الجزء المتبقى أو الذى لا يوجد تفسير له «إنتاجية إجمالى عوامل الإنتاج»، وهى تمثل مقياسا لكفاءة عوامل الإنتاج المستخدمة. وقد اتضح أن هذه التحليلات أظهرت بشكل متواصل أن النمو المنخفض فى أمريكا اللاتينية يمثل فى الأساس مشكلة تتعلق بإنتاجية إجمالى عوامل الإنتاج. وحيث إن انخفاض إنتاجية إجمالى عوامل الإنتاج يمثل عرضا أكثر من كونه مرضا، فالحل أكثر صعوبة من مجرد العمل على تعزيز الاستثمار فى كل من رأس المال البشرى والمادى. يمكن أن ينتج انخفاض إنتاجية إجمالى عوامل الإنتاج عن العديد من العوامل. وأحد العوامل التى جرى التوصل إليها هو بنية وتركيب الناتج فى بلدان أمريكا اللاتينية. ذلك أن أمريكا اللاتينية مازالت تعتمد بشدة على السلع الأساسية، ومن بينها النفط والصادرات الاستوائية وصادرات الحبوب والمواد الخام والغابات والصادرات الحيوانية. وعلى سبيل المثال، فإن الحال هكذا فى البلدان المنتجة للنفط، كالأرجنتين والبرازيل وكولومبيا والإكوادور، حيث تتزايد نسبة صادرات النفط إلى إجمالى الصادرات. وينطبق الأمر نفسه على بعض دول الكاريبى التى تتخصص فى إنتاج الغابات. تحتاج أمريكا اللاتينية إلى تقوية هيكلها الإنتاجى عبر تعزيز سياسات التنمية الإنتاجية لديها التى تشمل السياسات المرتبطة بهيكل الإنتاج (التى تعرف عادة بالسياسات الصناعية). لكنه بشكل أكثر عموما، تستهدف سياسة التنمية الإنتاجية القدرة التنافسية والتنمية الاقتصادية بمعناها الكلى، بما فى ذلك التعليم والصحة والبنية التحتية والاستثمار أو مناخ الأعمال. وطبقا لرودريجيز كلير (2006)، فإن «الهدف النهائى من سياسات التنمية الإنتاجية هو زيادة النمو وتحسين القدرة التنافسية بالنسبة للاقتصاد ككل، وفى الوقت نفسه الحفاظ على تحسن مستويات المعيشة». عندما لا تكون السوق فى حالة فشل، تستطيع الأسواق الحرة القيام بتخصيص الموارد على النحو الأمثل. لكن عندما تكون السوق فى حالة فشل، فإنه يمكن للسياسات الصناعية تخصيص الموارد بطريقة أفضل مقارنة بما يمكن تحقيقه من خلال السوق. وتتضمن أمثلة الفشل التى تبرر هذا النوع من التدخل تركيز السوق (market concentration) والعوامل الخارجية (externalities)، السلع العامة (public goods) والافتقار إلى الأسواق (missing markets). وقد قسم هوسمان ورودريك وسابل (2008) أنواع فشل السوق التى تواجهها الدول النامية إلى ثلاث مجموعات، هى العوامل الخارجية المكتشفة ذاتيا (self-discovery externalities)، والفشل فى التنسيق (coordination failures)، ونقص المدخلات العامة (a lack of public inputs). وتعكس المجموعة الأولى حقيقة أن الدول النامية قد لا تكون على دراية بالمنتجات التى يمكن إنتاجها بكفاءة فى اقتصاداتها (بسبب الافتقار إلى الخبرة السابقة). وإذا كان هذا هو الحال، فيجب على الشركات اجتياز تجتاز تجارب مكلفة لاكتشاف ميزاتها المحتملة. ويعكس الفشل فى التنسيق حقيقة أن الأنشطة الجديدة قد تتطلب استثمارا متزامنا فى مراحل مختلفة من سلسلة الإنتاج. وفى حالة غياب التنسيق، فإن أحدا من صغار العملاء لن يكون لديه الحافز للاستثمار فى مرحلة بعينها من مراحل سلسلة الإنتاج. وتشمل المدخلات العامة المؤسسات والبنية التحتية والقدرات والمعايير الضرورية من أجل حل مشكلة العوامل الخارجية المكتشفة ذاتيا والفشل فى التنسيق. إن جميع هذه الأمور تبدو سهلة عندما توجد فى الواقع عوائق كبيرة أمام قدرة الحكومات على تصميم وتطبيق السياسات الصناعية. وتواجه الحكومات قيودا (معلوماتية وفنية...إلخ) عند محاولة القيام بتخصيص أفضل للموارد. وإذا لم يكن لدى واضعى السياسات معلومات كافية حول هيكل الاقتصاد وسلوك العملاء، أو إذا كانوا لا يسيرون فى ذلك بالطريقة الصحيحة، فإن فشل الحكومات يمكن أن يفاقم المشكلات الناجمة عن فشل السوق. ثانيا: يجب أن تتجنب الحكومات بكل الطرق سوء تخصيص الموارد. السياسات الصناعية، خاصة عندما تركز بشكل ضيق على المستفيدين، تؤدى إلى زيادة ربحية شركة أو صناعة أو قطاع واحد مقارنة بالآخرين. يجب على الحكومات أن تدرك التكلفة المرتبطة بسياسات التنمية الإنتاجية. وحتى إذا كان هناك اتفاق حول فوائد سياسة بعينها، فإنها قد تكون مكلفة أكثر مما يجب. ومن ثم، فإن تحليل السياسات على أساس التكلفة والعائد يجب أن يؤخذ فى الاعتبار قبل المضى قدما فى سياسات التنمية الإنتاجية. وأخيرا، لا يجب أن يعتبر الاعتماد على سلعة بعينها عاملا سلبيا بالضرورة. ذلك أن الإنتاج السلعى بإمكانه أن يحسن من جودة المنتج ويؤدى تنويع الكفاءة عبر الابتكار التكنولوجى. تعيش أمريكا اللاتينية وضعا فريدا يحتم عليها أن تبدأ فى سلسلة نقاشات حول سياسات التنمية الإنتاجية. وقد أدت حقيقة أن أمريكا اللاتينية نجحت فى التعامل مع الأزمة إلى توسيع فضاء السياسة وأوجدت شعورا بالثقة فى الذات، وهو ما يمثل شرطا أساسيا من شروط التفكير الخلاق.