كان لأمريكا اللاتينية نصيب كبير من الأزمات المالية العالمية خلال ربع القرن الأخير ولحسن الحظ فإن أسهم هذه القارة وعملاتها وسنداتها تصنف الاَن ضمن الأصول منخفضة المخاطر وهذا يدل علي حدوث تحول اقتصادي إيجابي في أمريكا اللاتينية وإن كانت تغطي عليه الأصوات الصاخبة التي تصدر عن بعض القادة اليساريين في القارة.. وبوجه عام فإن الأداء الاقتصادي في أمريكا اللاتينية يتجه إلي الأفضل منذ أكثر من عقدين من الزمان. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن اقتصادات أمريكا اللاتينية حققت في عام 2004 معدل نمو بلغ 9.5% في المتوسط وهو أسرع معدل في القارة منذ عام 1981 وعلي الرغم من أن هذا المعدل قد تباطأ قليلا فإن النمو مستمر.. وتتوقع اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاريبي التابعة للأمم المتحدة أن يكون معدل النمو في القارة اللاتينية هذا العام 6.4% علي الأقل بل وربما يزيد علي ذلك خصوصا أن بنك باركليز كابيتال وهو أحد بنوك الاستثمار البارزة يؤكد أن معدل النمو في المنطقة خلال الربع الأول من عام 2006 كان في حدود 6% سنويا. ويبدو أن نمو أمريكا اللاتينية قد صار قادرا علي الاستمرار معتمدا علي عوامل ذاتية، فالتضخم قد تراجع في العام الماضي ليصبح في حدود 3.6% وهو أدني معدل منذ ستينيات القرن الماضي "عدا عام 2001 حيث كان المعدل 1.6% فقط" كما أصبحت أمريكا اللاتينية تحقق فائضا في ميزان الحساب الجاري خلال السنوات الثلاث الأخيرة بعد أن كان العجز هو السمة المميزة منذ عام 1997 حيث كان معدل النمو 5.5% ونسبة العجز في ميزان الحساب الجاري 5.4% من إجمالي الناتج المحلي. ورغم أن ديون أمريكا اللاتينية كانت في حالة تصاعد فإن دول القارة استطاعت خفض هذه الديون استنادا إلي ما تحققه من نمو.. فالدين العام هبط من 72% من إجمالي الناتج المحلي عام 2002 ليصبح 53% فقط عام 2005 وذلك حسب أرقام بنك إنتر أمريكان ديفلوبمنت بانك، وهذا يعكس قوة الأوضاع المالية لدول أمريكا اللاتينية حيث تقول أرقام نفس البنك إن متوسط العجز في موازنات دول القارة انخفض إلي 7.1% من إجمالي الناتج المحلي عام 2005 بعد أن كان 3.3% في عام 2002. وقد أدت هذه التطورات إلي حالة من الانتعاش في كل الفعاليات الاقتصادية لدول أمريكا اللاتينية خاصة البورصات وأسواق رأس المال التي استمر انتعاشها ثلاث سنوات متعاقبة حتي الاَن. وهناك من يعزو ما تتمتع به أمريكا اللاتينية حاليا من انتعاش اقتصادي إلي الإصلاحات الليبرالية التي ضغطت الولاياتالمتحدة من أجل اتخاذها في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بغض النظر عما يوجه إلي هذه الإصلاحات من هجوم سياسي من جانب قوي اليسار، فهذه الإصلاحات هي التي وفرت بيئة صالحة للنمو الاقتصادي.. ولكن هناك علي العكس من ذلك تماما من يري أن اقتصادات أمريكا اللاتينية كانت ستنتعش في السنوات الثلاث الأخيرة حتي بدون تلك الإصلاحات الليبرالية.. وأن الفضل في ذلك يرجع إلي زيادة الطلب الصيني والهندي الذي أدي إلي ارتفاع صاروخي في أسعار صادرات أمريكا اللاتينية من البضائع. كما يرجع الفضل أيضا إلي توافر الائتمان الرخيص في الدول الغنية نتيجة لانخفاض أسعار الفائدة وهو ما دفع بعض المستثمرين إلي البحث عن فرص استثمار في الأسواق الناشئة ومن ضمنها بلدان أمريكا اللاتينية. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن متوسط معدل النمو في أمريكا اللاتينية قد فاق المتوسط العالمي للنمو وإن كان يقل عن معدل النمو في كل من الصين والهند.. وتزداد قيمة هذا الإنجاز اللاتيني إذا عرفنا أنه يأتي عقب الانهيارات التي سبق أن مرت بها كل من الأرجنتين وفنزويلا، كما أنه قد حدث علي الرغم من تواضع أداء أكبر اقتصادين في القارة وهما الاقتصاد البرازيلي والاقتصاد المكسيكي. وهناك من يقول إن دول القارة لاتزال تعاني من اختلالات هيكلية تحتاج إلي علاج.. وأن معدل الاستثمار لايزال في حدود 20% من إجمالي الناتج المحلي ولم يتجاوز هذه النسبة إلا في شيلي حيث بلغ 25% علما بأن شيلي هي البلد الأفضل أداء وأنها تحقق منذ عام 1990 معدل نمو لا يقل عن 7.5% سنويا علي الدوام.. كذلك فإن نمو إنتاجية العمال لايزال محدودا وأسواق العمل لا تتسم بالقدر الكافي من المرونة كما أن تكلفة الاستثمار في أمريكا اللاتينية أعلي من أي مكان اَخر في العالم عدا الشرق الأوسط وأفريقيا. ويمكن القول بأن أمريكا اللاتينية تواجه تحديين كبيرين أولهما هو تجنب الوقوع في اضطراب كبير إذا ما حدث ضعف اقتصادي عالمي مفاجئ مثل تراجع الطلب الصيني والهندي أو ما شابه ذلك... والتحدي الثاني هو القضاء علي الفقر وعدم المساواة فالفقر وعدم المساواة هما السبب في أن قطاعا كبيرا من أبناء أمريكا اللاتينية لايزال بعيدا عن الاستفادة مما حدث من رواج في هذه القارة الكبيرة.. ولابد والحال كذلك من النظر في إعادة توزيع الدخل كجزء من تعميم الاستفادة من ثمار التنمية بين جميع فئات شعوب القارة اللاتينية خصوصا أن الفقر في ذاته يمكن أن يكون معوقا من أهم معوقات النمو في السنوات القادمة.