ينتاب المرء شعور عميق بالخجل حين يجد أننا نقبل على العام الجديد ونحن نتباعد عن الجزائر، فى حين نعزز اقترابنا من إسرائيل. أغلب الظن أن ذلك لم يكن مرتبا ولا مقصودا، لكنها مفارقات الأقدار وسخريتها التى أبت إلا أن تفضحنا لتشعرنا بمدى بؤس الواقع الذى نعيشه. أما الذى حدث بيننا وبين الجزائر من شقاق فأمره بات معلوما للكافة. وأما اقترابنا من إسرائيل فله شواهد عدة، أحدثها أن مكتبة الإسكندرية التى تمنينا أن تكون منارة تشرف مصر والأمة العربية لم تنفعل بالحاصل بين الأشقاء العرب، ولم تنشغل بإذكاء التفاعل الإيجابى بين مثقفى الأمة. ولكنها فى هذه الأجواء المخيمة دعت إلى ورشة «تشبيك» دعت إليها إسرائيل، مع مثقفين آخرين من العالم العربى والجامعات الغربية. لقد أطلقت تلك الدعوة البائسة مع حلول الذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلى الوحشى على قطاع غزة التى فضحها مؤخرا تقرير القاضى جولدستون، وفى ظل استمرار الحصار المفروض على القطاع. وهى الخلفية التى تجاهلها تماما المسئولون عن المكتبة، ووجهوا الدعوة إلى أربعة من الباحثين الإسرائيليين ضمن قائمة من الباحثين العرب والأمريكيين للمشاركة فى ورشة التشبيك، التى ستعقد بمقر المكتبة فى الإسكندرية فى الثالث من شهر يناير المقبل. مجموع المدعوين للورشة 51 شخصا، بينهم تسعة من المصريين، وثلاثة أردنيين، وأربعة من الجامعة الأمريكية بلبنان، وثلاثة من جامعة الإمارات، وواحد من قطر، وثلاثة من الفلسطينيين. وإلى جانب الإسرائيليين الأربعة، هناك 24 من أساتذة الجامعات الأمريكية. أسماء المشاركين والجهات التى يمثلونها وبرنامج الورشة التى تستمر أربعة أيام، ذلك كله موجود على موقع مكتبة الإسكندرية على الإنترنت. وواضح فيه أن من أهدافها الأساسية تحقيق التعاون والتواصل بين الباحثين العاملين فى مجال المعلومات. بحيث لا تكون الورشة مجرد مؤتمر ينعقد ثم ينفض شأن الملتقيات الأخرى، ولكنها تكون تأسيسا لشبكة من الباحثين لهم علاقاتهم المستمرة فى المستقبل. الورشة فى جوهرها استخدمت مكتبة الإسكندرية لمد جسور التطبيع مع الإسرائيليين. ولا يحتاج المرء لأن يبذل جهدا لكى يدرك أن وجود 24 من أساتذة الجامعات الأمريكية (حوالى نصف المشاركين فى الورشة) يعبر عن حماس غير مألوف ومشكوك فى براءته، وأن دعوة الإسرائيليين للجلوس مع الباحثين اللبنانيين والخليجيين فضلا عن المصريين والأردنيين، تمثل عنصر جذب إن لم يكن هو الهدف من اللقاء. الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل فى رام الله. صدمتها استضافة مكتبة الإسكندرية للورشة، فأصدرت بيانا استنكرت فيه موقفها. إذ لم تتوقع أن تلقى دعوتها استجابة من جانب الشرفاء وذوى الضمائر الحية من بين الأكاديميين الغربيين، فى حين يكون هذا هو موقف المكتبة المرموقة فى مصر. وهى محقة فى ذلك لا ريب، لأن المنابر الثقافية هى الأجدر من غيرها بالدفاع عن الموقف الأخلاقى الذى يتعين الالتزام به فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى. والمثقفون الذين يكتبون شرعيتهم من تعبيرهم عن ضمير الأمة هم الأولى باتخاذ موقف المقاطعة لكل ما هو منسوب إلى دولة الاحتلال. إن مسئولى المكتبة إذا أرادوا أن يصححوا خطأهم فليس أمامهم سوى سحب الدعوة للممثلين الإسرائيليين، وإذا لم يتحقق ذلك، فالبديل هو مقاطعة المشاركين العرب للورشة وللمكتبة، التى أصبحت للأسف إحدى ساحات الاختراق الإسرائيلى للساحة الثقافية العربية. إن المكتبة تستطيع أن تؤدى دورا شريفا فى العالم العربى لا تحصى مجالاته، لكنها تورط نفسها فى أنشطة تلوث صفحتها وتسىء إلى سمعتها، ولا أعرف إن كان للتمويل الأجنبى علاقة بتلك الأنشطة أم لا، ولكن حتى إذا كان ذلك صحيحا، فمن المنظور الأخلاقى والسياسى والتاريخى، يظل ما تدفعه المكتبة من رصيد احترامها أضعاف ما تقبضه من أطراف سيئة السمعة تدفعها لكى تؤدى أدوارا مشبوهة. إسرائيل هى المستفيد الأول منها.