(سميعة الطرب) الذين لا يضيرهم الاستماع فرادى إلى موسيقاهم المفضلة، تتضاعف متعتهم عندما يجتمعون حول أسطوانة قديمة تقاوم الزمن تداعبها إبرة جرامافون لا يزال طلاؤه الذهبى يلمع وينطلق بوقه باللحن القديم زاهيا. يقلب د.محمد الباز فى مجموعات الأسطوانات المتناثرة فى أرجاء الصالون إلى أن يجد أسطوانة بعينها، يضعها فى أحد أجهزة الجرامافون الكثيرة الموزعة فى الأركان. يخرج إبرة جديدة من كيس مجاور للجرامافون ويثبتها فيه. يلف الزنبلك بيده لثوان، قبل أن يضع الإبرة على سطح الأسطوانة التى بدأت تدور. «يا صحبة الورد النادية، الكون ده مخلوق علشانك. ابتسمى للدنيا الزاهية، وفتحى قبل أوانك»، ينطلق صوت ليلى مراد هادئا وناصعا، ومتسقا مع ديكور الصالون والأثاث الكلاسيكى وأجهزة الراديو ذات الطراز القديم وقطع السجاد اليدوى الفنية المعلقة على الحائط والأغلفة الصفراء المتناثرة التى تحفظ الاسطوانات الكبيرة العتيقة، التى توقف د.محمد الباز مؤقتا عن تقليبه فيها بحثا عن شىء آخر وهو يستقبل ضيوفه ويرحب بهم ويشدد على خدمه التزام الحذر وهم ينقلون بعض الاسطوانات: «كأنها من زجاج». الليلة هو موعد لقاء مجموعة منتقاة من «السميعة» الذين اجتمع شملهم من خلال منتدى «سماعى» على الإنترنت، ثم بدأوا التواصل وجها لوجه والتلاقى كل فترة فى سهرة تتنوع بين السماع والنقاش حول الموسيقى التراثية أو أحاديث الذكريات، وأصبح منزل د.الباز بأجوائه المميزة مكانا مفضلا للقاءاتهم. يجلس ياسين سعيد، الشاب الذى لم يتجاوز الثلاثين بعد ويعبر عن سعادته الدائمة بالقدوم إلى فيلا د.محمد الباز، الطبيب وأستاذ طب الأطفال فى جامعة القاهرة، والاستمتاع بأجواء الطرب وسط «كبار السميعة». يرحب ياسين بمحمد الآلاتى، الملحن والناقد الموسيقى الذى يبدو فى الأربعينات من عمره. ويحييان معا المهندس محمد رءوف المسيرى الذى يبدو أكبر قليلا ويخاطبانه باسمه الذى يعرف به فى المنتدى: «الباشا». المهندس رءوف، بالإضافة لكونه «سميعا قديما»، فهو خبير فى تكنولوجيا المعلومات وواحد من المجموعة القليلة التى أحيت المنتدى ودعمته تقنيا وقت افتتاحه عام 2005. يرحبون جميعا بقدوم محمد أبومندور ثم يفاجئون مضيفهم بحضور د.صالح عبدالفتاح أستاذ الفيزياء النووية بجامعة القاهرة الذى قد يفضل فى هذا المقام لقبا آخر: «الحبر الكلثومى» فهو واحد من أشهر سميعة «أم كلثوم» بشكل خاص ويحفظ عن ظهر قلب التاريخ الفنى لأم كلثوم بما فى ذلك تواريخ حفلاتها وما غنت فى كل منها. كانت اسطوانة ليلى مراد قد انتهت، فوضع د.محمد الباز شريط بكر Reel فى مشغل هذا النوع من الشرائط، والذى كان التطور السابق على الكاسيت، وطلب من الجميع الاستماع إلى ذلك التسجيل لأغنية «يا اللى كان يشجيك أنينى» والتركيز على الختام المميز للأغنية مع كلمة «دموعى» التى تفيض لوعة وشجنا. يحلل محمد الآلاتى هذه اللفتة الموسيقية، بينما يتناقش د.صالح ود.الباز حول عدد المرات التى غنت فيها أم كلثوم هذه الأغنية وتاريخ هذا التسجيل. يعلق ياسين: «المرة الأولى التى اطلعت فيها على نقاشات المنتدى استغربت هذا الاهتمام بالتسجيلات المختلفة والفروق بينها. كلهم فى النهاية أغنية «يا اللى كان يشجيك أنينى»، ما الفرق؟ ولكن بعد فترة علمت أن هناك فروقا فنية لا يلاحظها إلا السميع، مثل إعادتها لمقاطع أو صولوهات لآلات معينة وأيضا ارتجالاتها المختلفة خارج اللحن المكتوب». يتدخل د.صالح: «فى إحدى الحفلات بعد أن هموا بإنزال الستار استجابت أم كلثوم لطلب الحضور وأعادت مقاطع من آخر أغنية بتصريفات وارتجالات لا مثيل لها لم تغنها من قبل، مثل هذا الإبداع ليس متاحا فى كل تسجيل فهو لم يكتبه الملحن فى النوتة ولم تتدرب عليه الفرقة فى البروفات ولكنهم يلاحقون أم كلثوم ويحاولون مجاراتها». لدى د.صالح أرشيف لكل حفلات أم كلثوم بتواريخها وأسماء المذيعين الذين قدموها بل وأرقام الاسطوانات المتاحة منها فى مكتبة الإذاعة المصرية التى لم يدخلها أبدا! يحكى أنه بدأ فى الاتصال بالإذاعة والسؤال عن أرقام الاسطوانات لكى يدونها، واستغربوا ذلك فى البداية ولكنه كون صداقات بين مهندسى الإذاعة وعندما أنهى تسجيل أرقام الاسطوانات أصبحوا يرجعون إليه أحيانا لسرعة الوصول إلى أرقام الاسطوانات مع معلومات عن الحفلة وأغانيها، وفى أوائل الثمانينيات كانت الإذاعة تعلن أن فقرة أم كلثوم من إعداد واختيار د.صالح عبدالفتاح. فى منتدى «سماعى» وجد صالح عبدالفتاح احتفاء باهتمامه البالغ بتاريخ أم كلثوم، كما أنه وجد مشاركين له فى هذا الاهتمام لدرجة أن المنتدى يحتوى على تسجيلات لا توجد عند الإذاعة المصرية أو أنها مفقودة وتالفة أو لا تذاع بسبب سوء حالتها. مجلس الطرب الافتراضى منتدى «سماعى»، الذى يعد الآن أكبر منتدى موسيقى عربى على الإنترنت ويتجاوز عدد الأعضاء المسجلين به 470 ألف عضو، كان نقطة التقاء مهتمين بالموسيقى العربية التراثية من مختلف الأعمار والأماكن. ورغم أن مؤسسيه كانوا ثلاثة: محمد الزمنطر من تونس وأحمد المسلمى من اليمن ومحمد حسان من مصر، إلا أن الحضور المصرى الأكثر كثافة واضح فى المنتدى. وهم يظنون أنهم فى الغالب المجموعة الأكثر تواصلا فى الواقع، بالإضافة لمجموعة أخرى فى المغرب. ويحكى محمد الآلاتى أن أول لقاء موسع ل«سميعة المنتدى» كان فى مقهى البستان بوسط القاهرة فى أغسطس 2007 وحضر إليه أعضاء من المحافظات المختلفة، ثم بدأوا لقاءات غير دورية فى منزل د.محمد الباز. يحكى د.الباز أنه كان يمارس وحده هوايته فى جمع الاسطوانات والشرائط القديمة وأجهزة تشغيلها إلى أن تعرف على م.رءوف عبر المنتدى، والذى علمه كيفية تحويل هذه التسجيلات النادرة إلى صيغة إلكترونية ووضعها فى المنتدى ومشاركتها مع الآخرين ممن يفعلون الشىء نفسه ليجد هو أيضا تسجيلات لم يكن على علم بها. يقول د.محمد: «قبل ذلك كان المصدر الوحيد للتسجيلات والاسطوانات هم تجار الأنتيكات الذين يشترون هذه الأشياء من البيوت والقصور ثم يبيعونها للهواة». هؤلاء التجار، قبل ذيوع المنتديات، كانوا إحدى حلقات الوصل بين الهواة. وعن طريقهم تعرف هواة لاقتناء التسجيلات على د.محمد الباز ومنهم من حضر خصيصا من بلاد أخرى ليكمل مجموعته أو يستمع إلى تسجيل نادر. يذكر ياسين د.الباز بالشيخ خالد من قطر الذى زاره خصيصا من أجل بعض الاسطوانات النادرة التى لديه ثم يطلب منه تشغيل أغنية «يا رفيع التاج» لمحمد عبدالوهاب. يضع د.الباز الاسطوانة وعندما تبدأ تنتعش ملامحه مع الأنغام ويقول: «كان محمد عبدالوهاب يقول إنه لا يستمتع بالسماع إلا وهو يشاهد الاسطوانة تدور أمامه». يمدح محمد عبدالوهاب فى الأغنية آل سعود. فيتطرق الحديث إلى ممالئة عمالقة الطرب للحكام ويؤكدون أنهم يحبون فنهم وإبداعهم مهما كانت الملاحظات على سيرتهم الشخصية. يلقى د.الباز بملحوظة عن استبداد أم كلثوم وتسلطها أحيانا بعد شهرتها. يتفق معه مع بعض التحفظ د.صالح المتحيز لأم كلثوم دائما، بينما لا يجد ياسين الوهابى الهوى غضاضة فى ذلك ويؤكد: «لا أعتقد فى هوايتنا حنين لعصر معين عشناه أو سيرة أشخاص، أنا لم أعش تلك الأيام ولا رأيتهم ولكن من يحب شيئا ما يبحث عن الأصيل فيه». يحكى ياسين عن كونه غريبا بعض الشىء بالنسبة لأقرانه من الشباب. فزملاؤه فى العمل «ضبطوه» وهو ينقل إلى الكمبيوتر بعضا من مختاراته الموسيقية وظلوا يحدقون لفترة فى بعض الأسماء: محمد أفندى صادق، عبدالحى حلمى، وعبدالرحيم حسنين! وعندما طلبوا منه أن يشغل لهم أحدث ما عنده شغل لهم أغنية لمحمد ثروت! يتدخل مهندس رءوف ليقول إن الأغانى الحديثة هى أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب فى الستينيات. يضحك الجميع ويذكر ياسين أن الحقبة الزمنية المفضلة ل«الباشا» هى العشرينيات والثلاثينيات التى شهدت بدايات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. «اسمعوا دى» يعثر د.محمد فورا على اسطوانة قديمة تغنى فيها أم كلثوم طقطوقة قديمة بأسلوب العشرينيات: «الفل والياسمين والورد، عملوا سوا صحبة موضة ويا الزهور دول ربطوا عهد، عايزين حبيبى فى الأوضة». ويؤكد أن لها أغانى قديمة جميلة غير معروفة للأجيال الجديدة ربما لأن كلماتها تحتاج لتوضيح، ويعلن عن أسفه أن تسجيلات قديمة كثيرة تندثر بسبب عدم الاهتمام بها من جانب المسئولين. التشبث بالذاكرة يحكى د.الباز عن تجربة له فى دار الكتب المصرية فى عهد رئيسها السابق. فقد تعرف عليه مصادفة، وعندما عرف د.الباز أن لديهم اسطوانات تحوى تسجيلات نادرة عرض أن يأتى بشكل منتظم إلى دار الكتب ويحضر معه جهاز تسجيل لكى ينقل محتوى الاسطوانات إلى صيغة إلكترونية يسهل حفظها، فوافق. وعندما بدأ مهمته فوجئ بأن الاسطوانات مكومة فوق بعضها فى المخازن، وأنها موضوعة فى أغلفة خشنة تفسدها، وأن الموظفة المسئولة عن القسم منذ أكثر من 20 عاما لم تسمع أيا من كل هذه الاسطوانات ولم تشغل ولو مرة واحدة الجرامافون الموجود عندها ولو من باب حب الاستطلاع. واكتشف عندما كانت تساعده أنها تلقى بالاسطوانات فى القمامة عندما تجدها مشروخة بدلا من محاولة إصلاحها! فى الوقت الذى كان هو ينتشى لأنه يجد تسجيلا نادرا لبروفة للشيخ يوسف المنيلاوى مثلا. وفى النهاية اضطر لأن يتوقف عن هذا التطوع لأن بعض الموظفين شكوه للإدارة وقالوا إنه يسرب التسجيلات إلى خارج الدار! يلتقط د.صالح طرف الكلام ليقول إنه متأكد أن هناك اسطوانات وتسجيلات تتلف فى مكتبات الإذاعة ولا نسمع عنها فى الوقت الذى خاطر مرة بحياته فى سبيل تسجيل نادر! ويحكى أنه سمع مصادفة فى إذاعة إسرائيل تسجيلا نادرا لإحدى أغنيات أم كلثوم، ولم يكن هذا التسجيل موجودا فى الإذاعة المصرية ولا عندى أى من الهواة الذين يعرفهم، فترقب لشهور واستمع يوميا لبرنامج إذاعة إسرائيل صباحا ليعرف أى من أغانى أم كلثوم سيذاع مساء، وعندما أعلنوا عن بث الأغنية مرة أخرى، انطلق مساء بسيارته على طريق السويس ومعه جهاز تسجيل ببطاريات ليحصل على درجة نقاء عالية. وعند منطقة معينة توقف فى الصحراء وترك نفسه للموسيقى إلى أن فوجئ بكشافات تخترق الظلام الذى حل وفوهات أسلحة تطرق على زجاج السيارة، فتأكد أولا من استمرار التسجيل ثم خرج إليهم ليعرف أنه توقف قرب منطقة عسكرية. وطبعا لم يتفهم كلامه المريب عن الأغنية و«إذاعة إسرائيل» إلا قيادات المنطقة من كبار الضباط فعاد إلى سيارته ليحمد الله أن التسجيل تم بنجاح. تقترب الساعة من الحادية عشرة، وهو ما يعنى موعد أغنية أم كلثوم فى إذاعة الأغانى، فيفتح د.الباز الراديو وينصت هو ود.صالح إلى المدخل الموسيقى وبعد ثوان يخبره د.صالح باسم الأغنية وتاريخ الحفلة: «عندنا التسجيل ده!» ويهزان رأسيهما باطمئنان ويغلق د.الباز الراديو ويأمر بالشاى ويضع اسطوانة «أصل اشتباكى مع المحبوب» لصالح عبدالحى، ويستمر السماع وحديث الذكريات حتى منتصف الليل.