فى شهر يونيو عام 1974 زار الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون مصر والسعودية حيث لقى استقبال الأبطال الفاتحين. استقبال لم يفسده وقتها إلا قصيدة ساخرة نظمها شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم وغناها رفيق عمره المرحوم الشيخ إمام مطلعها «شرّفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووترجيت». ذلك أنه قبل الزيارة بفترة وجيزة خلص حكماء الحزب الجمهورى الأمريكى إلى قرار أبلغوه إلى نيكسون أن عليه أن يختار بين الاستقالة من منصبه أو أن يواجه المحاكمة أمام مجلس الشيوخ بتهمتى الكذب على الشعب الأمريكى والتآمر لإعاقة العدالة، وذلك فى قضية اقتحام وزرع أجهزة تنصت فى مقر الحزب الديمقراطى المنافس فى مبنى «ووترجيت» بواشنطن. وقَبِل نيكسون الاستقالة بدلا من فضيحة المحاكمة وأعلنها فى شهر أغسطس، بعد شهرين من الاستقبال الباهر الذى أعده له «سلاطين الفول والزيت» بحسب تعبير نجم. أما لماذا يُقدم رئيس أكبر دولة فى العالم وهو فى موقف الخزى والعار على مثل هذه الزيارة التى لا تتناسب مع فضيحته، فهو وهم أن إظهار النجومية فى بحار السياسة الخارجية البعيدة يمكن أن يعزز الثقة بالنفس وأن يطمس الفشل والعجز فى الداخل القريب. السياسة الخارجية فى جوهرها هى دفاع مشروع عن المصالح الحيوية للدولة، وهى التعبير السياسى المتعارف عليه عن الأمن القومى الذى يحمى الدولة ومصالحها من العدوان الأجنبى. أما النجومية فهى بسط النفوذ فى المجال الحيوى القريب أو البعيد، ومحاولة تشكيل سياساته، وترتيب أفعاله بالشكل الذى يخدم مصالح وسياسات الدولة الأكبر والأقوى فى المنطقة، بمنطق الهيمنة الذى يستند إلى الثقل السياسى والاقتصادى والتكنولوجى والعسكرى للدولة صاحبة النفوذ، مثلما فعلت الولاياتالمتحدة فى أمريكا الجنوبية ثم فيتنام وأفغانستان والعراق، ومثلما فعلت مصر فى اليمن فى أوائل الستينيات. والنجومية فى السياسة الخارجية الإقليمية أو العربية العربية هى عادة قومية مقدسة طالما مارستها مصر قبل أن تنافسها فيها الآن ومنذ فترة بعض الدول «الشقيقة». فى زمن مضى كانت خطب عبدالناصر النارية تزلزل العروش وتهز التيجان فوق الرءوس وتلهب الثورات، وكان مركز مصر الثقافى والسياسى والعلمى والدينى يمنحها الزعامة بلا منافس، ويتوّجها عن حق بلقب «الشقيقة الكبرى». ولأن الموروث القبلى العربى لا يعترف بالزعامة الكاملة إلا لمن انتصر فى حرب ما ضد عدو ما، فقد تأكدت لمصر هذه المكانة بهزيمة العدوان الثلاثى لقوى الاستعمار القديم فى عام 1956، ومولد شرق أوسط جديد تقوده طموحات القومية والوحدة العربية وقاطرته مصر. لكن غريزة النجومية الوهمية الطاغية يمكن أن تتجاوز أحيانا العقلانية السياسية وركائزها وهنا تقع الكارثة، مثلما حدث فى هزيمة مصر أمام إسرائيل بدون حرب فى يونيو 1967. كانت مصر تمارس عملية استعراض للعضلات أمام شقيقاتها العرب وإخافة إسرائيل فتلقفتها الثانية بخطة مدروسة وأنزلت بها وبالعرب هزيمة لا تُنسى، وكارثة سقطت معها كل الأحلام العربية. من نفس المنطلق حاول صدام حسين الصعود إلى منصة الزعامة العربية بحرب خائبة شنها على إيران فى عام 1980، بعد عام من توقيع مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل أدت إلى عزلها عن المحيط العربى، ووقوع فراغ زعامة بدا لصدام حسين بالوهم وتضخم الذات أنه الشخص المناسب لأن يملؤه. كان هذا هو النمط السياسى السائد فى العلاقات الدولية والإقليمية: قطب يتمركز فى محيط إقليمى استراتيجى وتدور معه بفعل جاذبيته السياسية مجموعة من التوابع التى لا تستطيع الخروج من مجال الجاذبية الحاكمة. وساد هذا الفكر طوال الشطر الأكبر من القرن العشرين بعد انحسار فترة السيطرة القائمة على الاحتلال العسكرى المباشر وتعاظم حركة الاستقلال الوطنى. وكانت أبرز ملامح نظام الوصاية هذا تتجلى فى المحيط الحيوى المباشر للقطبين الحاكمين: الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتى وما يتبعهما من دول فى الكتلة الشرقية والمعسكر الغربى، بالإضافة لأمريكا الجنوبية كمجال حيوى ممتد للولايات المتحدة. وكانت أدوات التحكم تتراوح ما بين الدفع بالدبابات السوفييتية إلى عواصم الدول المارقة (بودابست 1956) و(براج 1968)، أو قيام ال CIA بتدبير الانقلابات العسكرية فى الدول التى تهدد بالتحول عن التبعية أو فى الدول التى قد تهدد التوازن الإقليمى البعيد مثل انقلاب حسنى الزعيم فى سوريا عام 1949، والانقلاب ضد مصدق فى إيران عام 1952، والإنزال الأمريكى فى لبنان عام 1958، وانقلاب بنوشيه ضد أييندى، الرئيس المنتخب فى شيلى عام 1973. كان هذا هو المنطق السائد مع بعض الاستثناءات حتى سقوط الاتحاد السوفييتى وتحول منظومة القوة الدولية والنجومية المحيطة بها إلى نظام القطب الواحد. وبالمثل فإن نجومية القيادة المصرية للعالم العربى بدأت انحسارا حادا بعد هزيمة يونيو 1967، وانتشرت ظاهرة جديدة هى انتشار المحاور على الهوامش بعيدا عن مركز السلطة التقليدى، وبمعنى آخر تفتت مركز النفوذ وانتقل من نقطة الوسط إلى الأطراف. وكانت آخر إنجازات السياسة المصرية الإقليمية النجومية هى إنقاذ ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية من قبضة الملك حسين فى الأردن قبل أيام من رحيل الرئيس عبدالناصر فى سبتمبر 1970. ومع انتقال مركز الثقل من الوسط إلى الأطراف بدأت مراكز التأثير الجديدة تلعب أدورا كانت مقتصرة على مصر الدولة المركزية. فمن كان يتصور أن حرب الخمسة عشر عاما الدموية فى لبنان (1975 1990) يمكن أن تحسم نهائيا باتفاق الطائف برعاية السعودية الدولة التى اتسمت سياستها الخارجية لعقود طويلة بالصمت الوقور؟ وكيف تجسر قطر الدولة ذات المليون نسمة أو تزيد قليلا على أن تتبنى بنجاح مصالحة أطراف الأزمة اللبنانية التى استمرت من نوفمبر2007 حتى مايو 2008 وكادت تدفع بلبنان إلى حافة الهاوية؟ ومن أين تأتّى لليمن أن يطرح مبادرة للوفاق بين الفصائل الفلسطينية؟ وكيف تجرؤ قطر على الدعوة لاجتماع قمة عربى طارئ فى يناير الماضى لإنقاذ غزة ولا تترك هذا الدور لمصر، الأمر الذى جعل وزير الخارجية المصرى أحمد أبوالغيط يصرخ على شاشات التليفزيون معلنا مؤكدا أن مصر الزعيمة عملت على إفشال قمة الدوحة التى كانت تستهدف مد يد العون للشعب الفلسطينى فى غزة «لأنه لا يمكن عقد مؤتمر دون موافقة مصر»؟ ثم كيف تسمح مصر لكتبة صحفها الحكومية التى لاتنطق إلا بهواها بإهانة رئيس دولة قطر وزوجته وهى التى تقاضى كتّاب المعارضة فيها بتهم إهانة رموز الحزب الحاكم؟ قد كان لمصر دور مركزى سياسى مجيد فى أفريقيا بلغ مصاف النجومية خلال حقبة التحرر الوطنى، ولكنها تخلت عنه تدريجيا لأسباب قليلها مفهوم وكثيرها مزاجى غير مفهوم، لا يرقى إلى مستوى النجومية ولا حتى السياسة الخارجية الواعية. منذ أيام «التكامل» المصرى السودانى فى أوائل الثمانينيات، تركت مصر الحبل على الغارب لشريكها الجنوبى الديكتاتور السودانى جعفر نميرى يتلاعب بالقوى السياسية الداخلية على هواه ويقمع أهل الجنوب الذين يطحنهم الفقر والمرض، وذلك دون نصح أو تحذير مصرى من مغبة سياساته المزاجية، ومنها الانقلاب من فرض الاتحاد الاشتراكى السودانى كقيادة سياسية إلى فرض الشريعة الإسلامية كأداة للحكم. وكانت النتيجة انفجار ثورة الجنوب بقيادة جون جارانج وبدعم من عصابات «جيش الرب» الأوغندى، مما زعزع من استقرار السودان والحق أضرارا جسيمة وممتدة بمصالح مصر فيما وراء البوابة الجنوبية لعقود يعلم الله مداها. أضف إلى ذلك أن مصر أغلقت الباب تماما على أفريقيا وأدارت ظهرها لها لعقد كامل من الزمن عقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا عام 1995، قبل أن تدرك مدى الضرر الذى لحق وما زال يلحق بمصالحها الخارجية وفى المحافل الدولية جراء تلك المقاطعة، وآخرها موقف المندوبين الأفارقة من مرشح مصر لمنصب المدير العام لليونسكو. ومهما يمكن أن يقدم من دفاع أو نقض، فإن أفريقيا تدرك الآن يقينا أن مصر نجم التحرر الأفريقى فى الماضى وما عادت تلتفت إليها إلا وقت الحاجة. ولنا أن نتحدث بإفاضة عن استغلال إسرائيل لهذا الفراغ وتأثيراته المحتملة على مصالح مصر مستقبلا. لو كان ل«الشقيقة الكبرى» دور فعال وملموس لما كانت ثورة الجنوب ولا أزمة دارفور فى السودان، ولا لزعامة «ملك ملوك أفريقيا» الهزلية للقارة بزكائب الدولارات! لم يعد هناك مجال فى السياسة الإقليمية العربية، ولا فى السياسية الدولية، لادعاءات النجومية أو الزعامة التى تطن بها الصحف الرسمية، فالعالم قد تفتت وتغير. الولاياتالمتحدة خرّبت العراق بعد ستة أعوام من الغزو والاحتلال وهى تبحث عن مخرج آمن، بينما تجرجر حلفاءها المتذمرين إلى قرار مستنقع أفغانستان؛روسيا والصين تقتنصان الفرص دون ادعاءات بالزعامة ولكن ببناء المصالح المشتركة، من أنجولا إلى إيران، والتعاون الثنائى الاقتصادى والعسكرى لتقيلص الهيمنة الأمريكية على بعض دول آسيا. ومصر الشقيقة الكبرى آن لها أن تتخلى عن ادعاءات الزعامة والنجومية الفاشلة، وأن تركّز على عناصر القوة الحقيقية للأمم.. وهى البناء الداخلى وحرية الاختيار السياسى واحترام حقوق الإنسان والانتخابات النزيهة التى لم يعرفها الشعب المصرى طوال أكثر من نصف قرن. والتوهم بغير ذلك هو باطل الأباطيل وقبض الريح.