(محاضرة أُلقيت في كنيسة الصّليب المحيي- لبنان في تاريخ 2/5/2017) ونحن مقبلون على أحد دخول المسيح إلى أورشليم ومِن ثمَّ الأسبوع العظيم والقيامة المجيدة، من الجيّد أن نتحدّث عن الصّوم من ناحية تقييم ذواتنا وتبيّن المرحلة الّتي وصلنا إليها في لقائنا مع الربّ. كي لا يدخل الصّوم في دائرة التّعوّد ويتوقّف عند الانقطاع الجسديّ وحسب. لأنّه إذا ما اقتصر الصّوم على الانقطاع عن الطّعام وحسب، فإنّه لا يتعدّى كونه عادة موروثة تقليديّة. وما الانقطاع عن الطّعام إلّا تعبير عن رغبة عميقة في تفريغ الذّات من كلّ شيء حتّى تمتلئ من الرّبّ. لا ريب أنّ كلّ الشّعوب تقريباً عرفت الصّوم ومارسته لأسباب وأهداف عدّة. إلّا أنّه عندما تمَسْحَنَ، إن جاز التّعبير، استمدّ قيمته المتجدّدة من المسيح، وأصبح جديداً في الخلق الجديد بيسوع المسيح، واتّخذ معنى أبعد من الفعل الخارجيّ. ولئن كانت أبعاد الصّوم لا تتوقّف عند الحدود الجسديّة، لزم التّوغّل في معانيه الرّوحيّة وأبعاده الإنسانيّة كيما نبلغ خواتمه وندخل فرح السّيّد ونختبر حرّيّة أبناء الله. لقد وعى آباؤنا أنّ الصّوم فعل ينطلق من الدّاخل الإنسانيّ إلى خارجه. ومن خلال اختباراتهم الرّوحيّة العميقة، جعلوا من الصّوم رفيقاً دائماً، حرّرهم من الأنا المستأثرة بالنّفس، لتمسيَ إنسانيّتهم أرحب فيسكنها الرّبّ وحده. ننطلق بداية من العهد القديم مع النّبي موسى لنتبيّن معنى الصّوم كصعود نحو الله والمكوث معه: "صعد موسى إلى الجبل، فغطّى السّحاب الجبل، وحلّ مجد الرّب على جبل سيناء، وغطّاه السّحاب ستّة أيّام. وفي اليوم السّابع دعي موسى من وسط السّحاب. وكان منظر مجد الرّبّ كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل. ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل. وكان موسى في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة." ( خروج 18،15:24). " وكان هناك عند الرّب أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماء." ( خروج 28:34). (وكان هناك عند الرّب أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماء.) تشير هذه الآية في عمقها إلى زمن الصّوم من ناحية الدّخول في سرّ الله، والتّأمّل في حضوره الدّائم. وليتمّ هذا التّأمّل ويثمر في نهاية الزّمن الأربعينيّ، وجبت التّهيئة له، والاستعداد للمكوث مع الرّبّ حتّى يتمكّن الإنسان من معاينته. والتّهيئة تكون أوّلاً بالتّوبة، أي بتجريد الذّات من كلّ ما يعيق مسيرتها نحو الله، وتطويع الحواس، وإخضاعها للقرار الإنسانيّ الحرّ، وتدريبها على الإذعان له. من هنا يكون الانقطاع عن الطّعام مجرّد وسيلة تمكّن الإنسان من المضيّ قدماً نحو حرّيّته في الله. كما تُظهر مضمون الصّوم بشكل عكسيّ عمّا نعرفه. بمعنى آخر، عند الرّبّ ظلّ موسى أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل ولم يشرب. ما يعني أنّ الحضور الإلهيّ أشبع موسى وأغنى كيانه بكلّيته، فلم يعد يحتاج للأكل والشّرب. – الصّوم أبعد من فعل جسديّ: من هنا نفهم قول القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم: "ليس الصّوم رياضة جسديّة بل روحيّة". لأنّه لو كان رياضة جسديّة لوقف عند هذه الحدود، وما تمكّن هذا الفعل، أي الصّوم، من تغيير الإنسان من الدّاخل. ومتى تحرّرت النّفس تحرّر الإنسان واقترب من قلب الله حدّ ملامسته. حرّيّة النّفس مرتبطة بحرّيّة الجسد، لأنّها المحرّك الأساس له. نجاهد بالجسد ونكبح رغباته وشهواته، ونمنع عنه متطلّباته الفانية، لنهتمّ بتربية النّفس، وتطويعها لمشيئة الله، وإخضاعها لإرادتنا بدل أن نخضع لها. فتنعتق النّفس وتتّزن وتتعمّق علاقتها بالمسيح فيتحرّر الجسد. وبالتّالي فالصّوم فعل يدرّب النّفس كما الجسد ولا يقوم بفعل قمع لهما. فالفرق شاسع بين التّدريب والقمع. التّدريب يعزّز الإرادة ويمنح الإنسان القدرة على التّحكّم بسلوكيّاته، فيوجّهها للخير الّذي يريده الله. وأمّا القمع فهو فعل يولّد الحقد وينتظر فرصة ليتفجّر عشوائيّاً. هذا التّدريب يمنع عن الإنسان بذور الخطيئة الّتي تنبت في النّفس أوّلاً قبل أن تتحوّل إلى نتيجة فعليّة. من هنا أهميّة الصّوم المرافق للتّوبة، فالتّوبة قرار بعدم الرّجوع إلى ما يجرح صلب المحبّة الإلهيّة. ما يحتاج إلى جهاد جسديّ وروحيّ وعلاقة وطيدة بالرّبّ، يساعدنا الصّوم على تعزيزها. "الصّوم الحقيقي ليس امتناعًا عن الطّعام فحسب، بل وكفّ عن الخطايا أيضًا. فقد صام الفرّيسي وخرج صفر اليدين، معدمًا من ثمر الصّوم، أما أهل نينوى فصاموا وربحوا مراحم الله. صام اليهود ولم ينتفعوا شيئًا بل امتلأوا لومًا. فالخطر عظيم بالنّسبة للّذين لا يعرفون كيف يصومون. لنتعلّم قوانين هذا التّدريب حتّى لا نسعى باطلًا، ولا نضرب الهواء، ولا نحارب الظّلّ. الصّوم دواء، لكنّ الدّواء يصير غير نافع بل ضارًا للّذين يستعملونه بغير مهارة. كرامة الصّوم لا في الامتناع عن الطّعام بل في الانسحاب من الأعمال الشّريرة. لا تصوّم فمك وحده، بل صوّم أيضًا عينيك وأذنيك وقدميك ويديك وكل أعضاء جسدك. صوِّم يديك بالنّقاوة من الاغتصاب والطّمع. صوِّم عينيك بتعليمها ألّا ترتكزا في التّطلّع على ملامح البعض وتنشغلا بالجمال الغريب… أما صوم الأذنين فيكون بعدم قبول الكلام الشّرير". (القدّيس يوحنا فم الذّهب). – الصّوم علاج للنّفس: يدخل الصّوم من حيث أنّه تدريب للذّات على الانقطاع عن العالم، في عمق التّركيبة النّفسيّة الإنسانيّة. فيحوّل تعقيداتها، ويعتقها من تركيبتها الغريبة العجيبة المليئة بالتّناقضات والتّعقيدات. من هنا فالصّوم ليس قمعاً وإلّا لقرأنا في سير آبائنا القدّيسين معاناة من اضطرابات نفسيّة. إلّا أنّنا نرى مع تعمّقهم في الحياة الإيمانيّة، والاقتراب أكثر فأكثر من النّور الإلهي، انكشافاً للإنسانيّة الّتي على صورة الله ومثاله. فيلزم التّدريب والإرادة والوقت والصّلاة. لأنّه من العسير على الإنسان أن يتخلّى عن أناه بسهولة حتّى وإن كانت تسبّب له الأوجاع. "في الصّوم ادخل إلى قلبك وافحصه بدقّة لتعرف بأيّة أفكار وأوجاع هو يرتبط". (القدّيس ثيوفان النّاسك). الأوجاع الّتي يعاني منها القلب، هي تلك المرتبطة بالتّخبطات الإنسانيّة، والتّناقضات الّتي تتجاذبها، والصّراعات الّتي تنهك قواها. ويظلّ الإنسان مشروع إنسان حتّى يتفلّت منها. ذاك ما وصل إليه آباؤنا من إدراك لإنسانيّتهم المكتملة. أخلوا ذاتهم من الأنا بالصّوم والصّلاة ليمتلئوا من الأنا الجديدة بيسوع المسيح. فاستناروا وعاشوا إنسانيّتهم المعدّة لملكوت الله، وانطبعوا بالنّور فعكسوا صورة الرّبّ. – الصّوم، رقيّ وتقدّم للشّعوب الشّعوب المتقدّمة والمتحضّرة هي تلك الّتي تعتني بكرامة الإنسان. وبقدر ما تعي تلك الشّعوب أنّ الكرامة الإنسانيّة مرتبطة بالكرامة الإلهيّة تتقدّم وترتقي. ويبقى ما نشهده من تقدّم وتحضّر في دول تخلّت عن الله ناقصاً، لأنّها لا تستمدّ احترامها للكرامة الإنسانيّة من الله بل من فكرها الشّخصيّ، ما قد يجنح يوماً إلى سلبها كرامتها. " الصّوم يُصعد الصّلاة إلى السّماء كما لو كانت ريشة تطير نحو الأعالي. الصّوم هو سبب رُقيّ وتقدّم الشّعوب، الصّوم أصل الصّحة، الصّوم مربٍّ للشّباب وزينة الشّيوخ، والرّفيق الصّالح للمسافرين. الصّوم هو خيمة آمنة للّذين يطلبون مأوى. فالرّجل المتزوّج لا يرتاب من زوجته عندما يراها تصوم دائمًا. بالمثل فالمرأة تثق في رجلها ولا تدع الغيرة تتملّكها عندما تراه يصوم دائمًا" (القدّيس باسيليوس الكبير) إذا ما رافق الصّوم حياة الإنسان بنى تركيبته الإنسانيّة، وقرّب المسافة بينه وبين السّماء. وبهذا الاتّصال السّماويّ الإنسانيّ يتأسّس السّلام الّذي ينعش العلاقات الإنسانيّة الاجتماعيّة. فتضمحلّ النّزاعات والصّراعات، ويعي كلّ إنسان أهمّيّة أخيه. وإذ يدخل الصّوم في الإطار التّربويّ، يعلّم الإنسان النّظام، ويدرّبه على ضبط النّفس وضبط ردّات الفعل العشوائيّة. وينتج عن ذلك إنسان متّزن وصالح في المجتمع. . الصّوم يربّي الجسد والنّفس، وبالتّالي الكيان الإنساني. – الصّوم، قداسة كونيّة: "بالصّوم فلنتقدّس يا إخوتي لكي تتبارك السّنة بشهورها، فتعطي الأرض غلّاتها ويملك الأمن على الخليقة" (القدّيس أفرام السّوري). وكأنّي بالصّوم، ذلك الاتّصال الفعليّ بالله يعلّم الصّائم كيفيّة التّواصل مع الله ويحقّق شركة العمل بين الله والإنسان. يتقدّس الإنسان بالصّوم، إذ إنّه يُفْرِغ ذاته من الأرضيّات ليمتلئ من السّماويّات. وبالتّالي تسهل معاينة العمل الإلهيّ في الحياة ويسهل فهم المشيئة الإلهيّة. لذلك ينبغي على الصّوم أن يكون فعل حبّ حرّ، وقرار بإخلاء الّذات وتجريدها من المعوقات الّتي تشكّل حواجز بين الأرض والسّماء. فتتعزّز المحبّة الإلهيّة في الإنسان ويمتصّها الكيان كلّه فتنعكس في الحياة الواقعيّة. ولئن كان الصّوم اتّصالاً أرضيّاً سماويّاً، تجلّت حركته الكونيّة الّتي تطال الكون بأسره. فإنسان واحد صائم، أي على اتصال كامل بالله يتقدّس وبقداسته تتقدّس الأرض كلّها. فكيف إذا اتّجهت الجماعة المؤمنة كلّها بتجرّد كلّيّ إلى الله؟ فالمسيحيّ يتحمّل مسؤوليّة كبيرة في صومه، لأنّه لا يصوم لنفسه وحسب، بل لجماعة، ويحمل الكون بأسره في صومه وصلاته. – عندما يستحيل الصّوم طبعاً: "مَنْ يتخم معدته بالطّعام يوسّع أمعاءه، ومَنْ يجاهد ويقلّل طعامه يضمرها ويضيّقها، وإذا ضاقت الأمعاء لا تطلب غذاء كثيراً، وحينئذ نصير صوّامين بالطّبع" (القدّيس يوحنا السّلمي) إنّ ضبط الجسد والسّيطرة عليه من حيث تدريبه على الانقطاع عن الطّعام في سبيل تحقيق الهدف الرّوحيّ، ألا وهو فعل اقتراب من الله، يجذّر في داخلنا الشّوق إلى الله. وبالتّالي فكلّما اقتربنا منه انقطعنا أكثر عن العالم. وهنا ينتقل الصّوم من كونه فعلاً ليتحوّل إلى طبع إنسانيّ يرتقي بالإنسان إلى مستوى الحبّ الإلهيّ. وكما أنّ للإنسان طباعاً عدّة تعرّف عن شخصيّته الإنسانيّة، يصبح الصّوم طبعاً يعرّف عن شخصيّته المتّحدة بالله. لذلك يرافق الصّوم الصّلاة والتّوبة. "الصّوم تنقية للصّلاة ونور للنّفس ويقظة للذّهن وجلاء لقساوة القلب وباب للخشوع وتنهّد منسحق وتحسّر فرح." (القدّيس يوحنا السّلّمي). الصّلاة، لغة التّواصل مع الله تحتاج إلى نقاء فكريّ وجسديّ وروحيّ، وبالتّالي فالصّوم/ الطّبع يحافظ على ثبات العلاقة مع الله، ويحفظ نقاءها لأنّ هذا الطّبع سيقود الإنسان تدريجيّاً لأن يحيا السّماء وهو بعد في العالم. والتّوبة والانطلاق نحو الله، يحتاجان إلى دليل رفيق يوجّه الفكر الإنسانيّ ويردعه عن السّقوط في ما يهين كرامته الإنسانيّة. فيأتي طبع الصّوم ليغلب الطّباع السّيّئة الّتي ورثها الإنسان أو اكتسبها. الصّوم عمليّة إخلاء للذّات من التّعقيد الحياتيّ على المستوى الجسديّ والرّوحي. وهو فقر اختياريّ مشرّع على الغنى الإلهيّ، حتّى يمتلئ الكيان الإنسانيّ من الحبّ الإلهيّ. نصوم عن الفاني لنربح الباقي للحياة الأبديّة. "طوبى للفقراء بالرّوح لأنّ لهم ملكوت الله" (متى 3/5). وبالتّالي فالصّوم لا ينتهي بانتهاء الأيّام الأربعين، بل هو مفتوح على الحياة كلّها، لأنّه متى أفرغ الإنسان ذاته وامتلأ من الله فمن العسير أن يعود أدراجه. الصّوم حالة حبّ مستمرّة، وحالة شوق دائمة إلى الحبّ الإلهيّ، وبالتّالي فنحن مدعوون اليوم إلى التأمّل أكثر والإصغاء إلى صوت الرّبّ حتّى يثمر صومنا لقاء مستديماً بالمسيح الحيّ. ومن لم يصم فليبدأ الآن، وسينال أجره وسيدخل فرح السّيّد ويلقاه في مجد القيامة.