" صام موسى وإيليّا أربعين يومًا وعاشا مع الله وحده" ( العلّامة ترتليان). الصّوم هو الانقطاع عن العالم للعيش مع الله وحده. ويصبح الصّوم مجرّد عادة، وتقليد متوارث إذا ما ارتبط بالانقطاع عن الطّعام فقط. فالصّوم كانقطاع عن الطّعام ليس إلّا دليلاً على الرّغبة العميقة في تفريغ الذّات من كلّ شيء حتّى تمتلئ من الرّبّ. وكلّما تقدّمنا في الصّوم باتت الرّوح الممتلئة من الله حاملة للجسد الجائع ومسيطرة عليه، فيذوق الإنسان معنى حرّيّة أبناء الله. " فصعد موسى إلى الجبل، فغطّى السّحاب الجبل، وحلّ مجد الرّب على جبل سيناء، وغطّاه السّحاب ستّة أيّام. وفي اليوم السّابع دعي موسى من وسط السّحاب. وكان منظر مجد الرّبّ كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل. ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل. وكان موسى في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة." ( خروج 18،15:24). " وكان هناك عند الرّب أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماء." ( خروج 28:34). الصّوم أشبه بصعود الجبل حتّى بلوغ مجد الرّبّ. فتتدرج الخطوات من أسفل إلى علٍ، وتنتقل النّفس من حالة العبوديّة إلى حالة التّحرّر عند قمّة الجبل. وفي هذه الرّحلة التّصاعديّة لا يكون الإنسان بمفرده، وإنّما هو مظلّل بمحبّة الله ومرافقته. لم يصم موسى أربعين نهاراً وأربعين ليلة منقطعاً عن الخبز والماء بدافع قوّته الذّاتيّة، بل هذا الانقطاع ما هو إلّا دلالة على أنّ الحضور الإلهي يُغني الإنسان عن كلّ شيء، ويحرّره من سطوة الجسد، ويُطلق روحه حرّة وممتلئة بالنّعمة الإلهيّة. ( وكان موسى في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة.). تشير هذه الآية في عمقها إلى زمن الصّوم من ناحية الدّخول في سرّ الله، والتّأمّل في حضوره الدّائم. وليتمّ هذا التّأمّل ويثمر في نهاية الزّمن الأربعينيّ، وجبت التّهيئة له، والاستعداد للمكوث مع الرّبّ حتّى يتمكّن الإنسان من معاينته. والتّهيئة تكون أوّلاً بالتّوبة، أي بتجريد الذّات من كلّ ما يعيق مسيرتها نحو الله، وتطويع الحواس، وإخضاعها للقرار الإنسانيّ الحرّ، وتدريبها على الإذعان له. من هنا يكون الانقطاع عن الطّعام مجرّد وسيلة تمكّن الإنسان من المضيّ قدماً نحو حرّيّته في الله. ( وكان هناك عند الرّب أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماء.) تُظهر هذه الآية مضمون الصّوم بشكل عكسيّ عمّا نعرفه. بمعنى آخر، عند الرّبّ ظلّ موسى أربعين نهاراً وأربعين ليلة، لم يأكل ولم يشرب. ما يعني أنّ الحضور الإلهيّ أشبع موسى وأغنى كيانه بكلّيته، فلم يعد يحتاج للأكل والشّرب. فى الصوم ندخل في قلب الله ونمكث فيه مترفّعين عن الفاني لنحيا في مجد الرّبّ. وينتهي زمن الصّوم ولا تنتهي الحياة مع الله، بل تكون الحياة فيه منذ الآن وحتّى نعاينه في ما بعد وجهاً لوجه.