قامت الثورة المصرية في 25 يناير لتهدم منظومة فساد سياسي وإداري ومالي تغولت حتى بتنا أمام عصبة فاسدة تستأثر بالسلطة والثروة وتعبث بمقدرات الشعب والوطن حسب مصالحها وأهوائها.. ولا يمكن للنخب السياسية أو جماعات الإسلام السياسي بتنوعاتها إدعاء تصور ما حدث في الخامس والعشرين من يناير وحتى الحادي عشر من فبراير 2011 أو توقعه. إنما كان الشعب وفي طليعته الشباب المتطلع لمستقبل يحلم فيه بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهج نار الثورة المشتعل، ثم انضمت النخب والأحزاب السياسية وقوى الإسلام السياسي ومن بينها جماعة الأخوان! هذا لا يجحد جهاد من جاهد وقاوم نظام مبارك طيلة حكمه، ومن بينهم وفي طليعتهم حركة كفاية بما تضمه من ممثلين من كافة القوى الوطنية. كما أن هذا لا ينفي تورط أحزاب المعارضة وجماعة الأخوان المسلمين في عقد اتفاقات وصفقات مع نظام مبارك فيما كان يعرف بتجميل نظام مبارك من خلال معارضة هشة شكلية يتخذها النظام ذريعة وحجة للخطاب الديمقراطي المزعوم. ولعل انتخابات 2010 وما صاحبها من تزوير فاضح وإخلال بمنظومة النظام القائم على العصبة الحاكمة والمعارضة الشكلية كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير! ورغم الارتباك الشديد الذي صاحب إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية والأخطاء الفادحة التي ارتكبها وساهمت في الانقسام الواقع في الشارع المصري الآن، فإننا جميعا استبشرنا خيرا مع وصول أول رئيس مدني منتخب إلى مقعد الحكم في مصر. وظننا كمواطنين أن حصاد أي مسألة حسابية جمعا أو طرحا أو قسمة ستكون نتيجتها لصالح الوطن والمواطنين. لكننا اكتشفنا مع البشارات الأولى لحكم الرئيس مرسي أن أول عملية حسابية سياسية كانت متمثلة في ضرب المشروعية القانونية والدستورية وسيادة القانون ومحاولة إعادة مجلس الشعب المنعدم إلى الحياة من جديد لصالح عصبة الحكم ضد التوافق الوطني والمشروعية القانونية. وسريعا أصابت العصبة الحاكمة فوبيا مجلس الشعب والمحكمة الدستورية العليا، وفي ظل هذا الصراع يعمد أنصار التيار الأخواني السلفي إلى القول بأن شرعية المؤسسات المنتخبة لا يجب أن تحد منها أو تعطلها سلطة ما ولو كانت السلطة القضائية. وهي مغالطة فاضحة الفساد، فسيادة القانون وحدها التي تعلو فوق الحاكم والمحكوم وتعلو فوق كل الإرادات مهما كانت لأنها الفيصل والحكم بين السلطات، وهي من تعطي الحاكم مشروعيته كما تحفظ للمحكوم حقوقه وتحميها. فنحن إن أردنا قسمة عادلة لهذا الوطن بين أبنائه لا بد أن تقوم على دولة سيادة القانون.. دولة يتساوى فيها الحاكم والمحكوم أمام القانون والقضاء. وإذا كان الرئيس بإعلانه تحصين قراراته يضرب المشروعية الدستورية والقانونية في مقتل، فإن كرة النار التي اشتعلت بسبب قرار الرئيس وجماعته السياسية وتشعل الشارع المصري كله ليست ببعيدة عن مشروعية الحكم، أو أمن الوطن الذي يتمزق أمام عيون الساسة وأبصارهم دون أن يعودوا خطوة إلى جادة الصواب من أجل الوطن، ومن أجل الثورة، ومن أجل المواطن البسيط الذي ضاع من حسابات السلطة وسلمته إلى حكومة لامردود حقيقي ملموس لأعمالها في الشارع. لن تنحل الأزمة بهذا السباق المحموم لإصدار دستور لا يحظ بالتوافق الوطني.. مع إيماني أنه لا إشكالية حقيقية مع أي نص دستوري أو قانوني عام ومجرد طالما يطبق على الكافة بذات المعيار والحيدة والتجرد من الهوى. لكننا في الواقع نعيش أزمة انجراف نحو الهوى السياسي الأعمى، الذي يجعل كل طرف لا يشاهد من صورة الوطن إلا مصالحه وحساباته الضيقة بعيدا عن مصالح الوطن وجموع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.. وهو ما سيدفعنا للغوص في نوايا المشرع وراء كل نص، وعدم الاطمئنان للمعايير التي تطبق وتفسر بها القوانين.. فنحن أمام سلطة تكفر برقابة المحكمة الدستورية على مشروعية القوانين، وأشاعت في المجتمع عبر هجمتها الشرسة على القضاء شعورا بعدم الارتياح تجاه أي حكم سيصدر لا يوافق طموحها وأطماع جماعتها السياسية على الأقل بين أنصارها وهم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن والمجتمع. أن الأوطان والدول لا تبنى بالنوايا الحسنة والكلام المعسول، وكرة النار التي انطلقت من قصر الاتحادية تحرق وتخرب في الوطن بإمكان الرئيس أن يعيدها إلى كوتها ويجنب الوطن الانقسام والفرقة. وفي ظني أن باستطاعة الرئيس أن يعيدنا إلى نقطة البداية الصحيحة إذا استعان بمستشارين بعيدين عن الهوى السياسي لجماعته أو لباقي القوى الوطنية، وحكم بوازع من ضميره وحده لصالح الوطن والمواطنين بقسمة عادلة يتساوى فيها الجميع ولصالح إعلاء سيادة القانون فوق كل سيادة واعتبار. ولتكن المغالبة أو المشاركة من خلال صندوق الانتخاب في انتخابات برلمانية لاحقة للدستور الجديد، أو لدستور مؤقت يخرجنا من هوة الانقسام الحالية التي نعيشها. والرئيس يتحمل وحده مسئولية أخطاء كل الأطراف، لأنه من يجلس في مقعد الحكم، والتوافق أو الاختلاف حصد لسياسته ومؤسسة الرئاسة عملا بما جاء في الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته".