حين نسمع ونرى ونقرأ عن عقوق الأبناء، فشلهم، استهتارهم، تجاهلهم لمشاعر آباءهم، استخفافهم بمستقبلهم وكأن ذلك المستقبل ليس لهم بل لآبائهم لدرجة قول البعض منهم: ” أبي يريد أن يراني طبيب، هذا كل حلمه في الحياة وليس من واجبي تحقيق هذا الحلم له”. إنهم أبناء بأقل قدر من الخسائر، لأن أبناء من هذا النوع سواء من ينجرف لإدمان المخدرات أو أي نوع آخر من الإدمان أو ينحرف عن الطريق أو يُسيء لأسرته هم أبناء بأقل قدر من الخسائر وهذا المصطلح يعني أن تتحول وظيفة الوالدين من مربين ومشرفين على مستقبل وتطور الابن إلى حارسين متيقظين لعدم وقوع الخسائر أو المزيد منها؛ فمجرد خروج هذا الابن العاق من المنزل يُشكل قلق لهما، فماذا سوف يفعل ومن سيقابل وكيف سيتصرف، هل سيجلب مصيبة أخرى؟ هل سيعود أم لا وكيف سيعود وبأي حالة؟ إنه واقع جديد يفرض نفسه على مجتمعنا، حيث لم تعد الأشياء آمنة كما في السابق، كما أن علاقاتنا مع بعضنا البعض لم تعد آمنة كما في السابق، حتى الأزواج قد يتحولون إلى أعداء في يوم أو يومين، سنة أو سنتين. ففي عالم تُفقد به المعايير والقيم والموازين يبدو أن الجميع يسير على الحبل الرقيق، هناك من يراقب سقوط الآخر وهناك من يتوقع سقوطه وهناك من يدفعه للسقوط، وهناك من يسقط من تلقاء ذاته. ويدخل في تعقيد العلاقات هذه تعقيد العلاقة مع الأبناء ليتحولوا إلى قنبلة موقوتة يخاف الأهل من انفجارها بأية لحظة، يحاولون تأخير زمن الانفجار، ينجحون أحياناً بإبطال مفعول القنبلة بجهود مضنية، وقد يفشلون وقد تتأخر الآثار المأساوية. وهو وضع قد لا تستطيع العديد من العائلات مواجهته أو معالجته لذلك لابد من إيجاد مراكز متخصصة لمتابعة علاقة الأهل بالأبناء بعد سن الخامسة عشر أو ابتداءاً من مرحلة المراهقة، تفتقد العديد من الأمهات والآباء للقدرة على التعامل مع هذه المشكلة المعقدة والمتفاقمة، أن ينظروا إلى أولادهم بأنهم مصدر عدم الأمان للأسرة، أن ينقلب الأمان الذي وفره الآباء لأبناهم إلى قلق وخوف من هؤلاء الأبناء ومما قد يقوموا به سواء اضراراً بأنفسهم أو بالأشخاص الذين حولهم. لقد تم إهمال دارسي علم الاجتماع في مجتمعاتنا العربية رغم الأهمية القصوى لدورهم في مجتمع تتهاوى به الكثير من القيم، وتتواجد به شروخ عميقة في بنية الأسرة والفرد، وهو موضوع يتجاوز أطباء علم النفس لأنه يمس البنية الأساسية للمجتمع، بل يشكل خطراً حقيقياً على تماسك الأسرة، فهذه الأسرة التي تشعر بالقلق والخوف لما يمكن أن يقوم به الابن العاق، أو الضال، أو المدمن سوف يؤدي بها إما إلى طرده أو نبذه أو أحياناً إلى وقوع جريمة ما حين يصبح الوضع لا يمكن احتماله. نحن نطالب الحكومات بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية وإدارية، وأن تلاحق الفساد أينما كان، فلماذا لا نُلح على الحكومات بأن تراقب ما يدور في البيوت، أن ترى العائلات المشتتة والتي تعيش في ظل القلق والخوف من ابناءها فلذات أكبادها والذين يتحولن إلى خناجر تطعن هذه الأكباد، لماذا ينصب الاهتمام على كل ما هو مادي وننسى ما هو معنوي ولكنه ينخر في بنيان الفرد والمجتمع؛ الحكومة لا تمتلك الشعور لأن وظيفتها رقمية إدارية قانونية إجرائية اقتصادية ، من يملك الشعور هم أفراد المجتمع وهم من يقولون للحكومة بأنه يوجد شيء ما خطأ، نريد المساعدة بل لابد من المساعدة وذلك ليس عبر مؤسسات تأمر بالقيام بهذا أو ذاك بل مؤسسات اجتماعية متخصصة، تعالج دون أن تمزق النسيج الأسرى الهش. أبناء بأقل قدر من الخسائر هم الأسوء والأشد عقوقاً ليس للوالدين فقط بل للمجتمع بأسره، إنهم يجعلون الآباء يندمون لأنهم أنجبوا، ويجعلون الحكومات ترزح تحت أعباء لا يُفترض أن تعالجها وتزيد من مسؤولياتها غير اليسيرة ؛ أبناء بأقل قدر من الخسائر ليس دليل على فشل الآباء، فهناك آباء مثاليين ولكنهم يعانون من هذه المأساة، الأسباب عديدة ومتنوعة ولكن هناك آباء بحاجة لدعم معنوي من جهات متخصصة، كان الحديث فيما مضى يتم عن جهات متخصصة لمساعدة الأبناء ولكن الآن أصبحت الحاجة ملحة لمساعدة الآباء معنوياً ونفسياً في ظل واقع يدمر نفسية الآباء ويقضي على آمالهم بأن يروا نجاح ابناءهم في الحياة أو حتى مقدرتهم على كسب قوت حياتهم؛ ينظرون إلى مشروع يتهاوى أمام أعينهم، لا يتهاوى فقط بذاته ولذاته، بل وتسقط قطعه المتناثرة على رؤوس الآباء ثم يدفعون ثمن الأضرار المادي منها والمعنوي الاجتماعي والفردي، فمشروع الابن الفاشل لا يخصه فقط بل يتسبب بالأضرار في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات