فاطمة اليوسف تواجه عبدالناصر فى مايو من العام 1953 استلت «فاطمة اليوسف» قلمها لتكتب عن الحرية.. كانت ترى أن مساحتها تضيق «مجتمعيا» فى ظل العهد «الثورى» الجديد.. رأت أنه لم يبق شىء يمكن أن يتنفس فيه النقد، وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف! وجهت «الست فاطمة» قلمها نحو الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر».. قالت له: إنها تعرف أسباب القيود التى تفرضها الثورة.. وأنها تدرك- يقينا- أنه يخشى أنياب الأفاعى، وفئران السفينة.. كانت تدرك «الست فاطمة» أن ناصر أراد ألا يستفيد الملوثون والمغرضون من إباحة الحريات لكنها انحازت إلى أن الحرية هى الرئة الوحيدة التى يتنفس بها الشعب رغم المخاوف «المبررة» التى تتفهم من خلالها ما يفرض من قيود. تلك المخاوف «نفسها»؛ كانت هى محور رد الرئيس عبدالناصر على «الست فاطمة».. قال «ناصر»: إن حاجتنا إلى الاختلاف فى التفاصيل قدر حاجتنا إلى الاتحاد فى الغايات.. وأنه يؤمن ويثق أن هذا من أسس الحرية «الصميمة». قال «ناصر» للست فاطمة: إنه فجع (من موقع المسئول) بما أتيح له الاطلاع عليه من وثائق الدولة حول مأساة الحرية.. لقد كان للحرية سوق.. وللأفكار تجارة.. وأن الحرية كانت تضيق وتتسع بالأرقام! المواجهة بين «الست فاطمة» وناصر من مصادر الاعتزاز داخل الدار «العريقة» فلا هى خافت أن تعبر عن وجهة نظرها بحرية تطلبها.. ولا صادرت رأيا تعارضه بمسئولية تحسد عليها.. وكأن الست فاطمة بذلك كانت تؤكد فعليا أحد المبادئ الأساسية التى بنت عليها مؤسستها الصحفية. «روزاليوسف» تحية أزكى بها شبابك الذى عرضته للخطر، وجهدك الذى تنفقه من أجل هذا الوطن. تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة.. أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح الندم، فلا يسعدها اليوم شيء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير. إننى أعرف الكثير عن ساعاتك التى تنفقها عملا بغير راحة ولياليك التى تقطعها سهرا بلا نوم، وتدقيقك البالغ فى كل أمر بغية أن تصل فيه إلى وجه الصواب ولكنك - وحدك - لن تستطيع كل شيء.. ولا بالمعونة الخالصة من أعوانك، وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلابد لك من معونة الذين لا تعرفهم أيضا الذين يعيشون فى جو غير جوك ويتأثرون بعوامل غير التى تؤثر فى أصدقائك ويمرون بتجارب كثيرة منوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس، ولا عشرة، ولا ألف! أنك - باختصار - فى حاجة إلى الخلاف.. تماما كحاجتك إلى الاتحاد. إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعانى الكبيرة، والخلاف للوسائل والتفاصيل، انظر إلى الأسرة الواحدة فى البيت الواحد.. قد تراها متماسكة متحابة متضامنة.. ولكن كل فرد فيها يفضل نوعا من الطعام ويتجه إلى طراز من العمل ويروق له لون من الثياب.. ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبير - أى وطن كبير - تجد هذا التباين والخلاف موجودا بينهم فى أدق دقائق الحياة، فى طريقة تذوق الحياة ذاتها. هذا الخلاف ليس شيئا تمليه الطبيعة وحدها، بل والمصلحة أيضا.. فكل إنسان يعيش حياة خاصة به تكيفها ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن حق كل إنسان أن يعبر دائما عن تجربته التى يستخلصها من هذه الحياة.. وأن يوضح مطالبه ويشرح أحلامه.. ومن اختلاف المطالب واحتكاك التجارب يتبين الجو العام أو رأى عام، يتفق عليه أكثر الناس.. شيء كضغط الهواء تحسه ولكن لا تراه.. يوجه دفة السياسة كما تنفخ الريح فى الشراع! فمالك الأرض الزراعية لا ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها صاحب المصنع.. وإحساس الموظف ليس كإحساس العامل الزراعى أو العامل الصناعى أو التاجر.. وما دام الناس طبقات كل طبقة لها وضعها وظروفها فلا بد من تعارض.. لا بد من تمدد فى كل شيء.. فى الأحزاب، فى الآراء، فى الأحلام.. تمدد يصبح وحدة متماسكة إذا دهم خطر خارجى، أو نزلت بوطن الجميع نازلة، ولكنه لا يموت أبدا لأنه شيء تمليه الطبيعة وتمليه المصلحة. وأنت تؤمن بهذا كله لا شك فى ذلك.. وقد قرأت لك غير بعيد حديثا تطالب فيه بالنقد وبالآراء الحرة النزيهة ولو خالفتك، ولكن.. أتعتقد أن الرأى يمكن أن يكون حرا حقا وعلى الفكر قيود؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير، فكيف يتخلص صاحب الرأى من تأثيرها المعنوي؟ يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة.. وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تمس ليتكبل فكره وتتردد يده، ويصبح أسيرا بلا قضبان. وقد قرأت لك أيضا - أو لبعض زملائك - أنكم تبحثون عن كفايات، وأنكم تريدون طرازًا غير المنافقين الموافقين ولكن.. كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته.. أليس ذلك بأن يعبر عن نفسه.. يعبر عنها بصراحة ودون تحوير؟.. إن مجرد شعور صاحب الكفاية - خاطئا أو مصيبا - بأن هناك شيئا مطلوبا وشيئا غير مطلوب يجعله إما أن يبعد بنفسه خشية أن لا يوافق المطلوب، وإما أن يقترب بعد أن يهيئ نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب، فتضيع الفائدة منه فى كلتا الحالتين. أترى.. إلى أى حد تفسد هذه القيود الجو.. أترى إلى هذا الستار الكثيف الذى تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟ إن الناس لا بد أن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقا ووضعا وطبعا.. وقد دعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب، وإلى تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأى. وقد أصبح للعهد الجديد شعار واحد وألوان واحدة، فلم يبق شيء يمكن أن يتنفس فيه النقد وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف، وأسنة الأقلام وتفكير المواطنين. على أنى أعرف الدوافع لإبقاء هذه القيود.. أنت تخاف أنياب الأفاعى وفيران كل سفينة.. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون، ولكن صدقنى أن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا فى ظل الرقابة وتقييد الحريات.. إن الحرية لا يفيد منها أبدا إلا الأحرار، والنور لا يفزع إلا الخفافيش. أما الهمسات فى الظلام، والبسمات التى يبطنها النفاق والمدائح التى يمتزج بها السم الزعاف.. فلا شيء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأى العام النابه الحريص. وأعرف أيضا أنك تتهيأ لمعركة فاصلة مع الإنجليز، وكلمتك الباهرة التى أعلنت بها توقف المباحثات لا تدع مجالا للشك فى صلابة موقفك.. وأنت تخاف على هذا الموقف الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك.. وصدقنى أن هذا لن يكون.. فهؤلاء الانهزاميون لم يحدثوا تأثيرهم فى الماضى إلا لأن جهات قوية كانت تحميهم.. ولو أنهم تركوا بغير حماية لما عاشوا طويلا.. فالحرية الصحيحة دائما كفيلة بقتل أعضائها كما يقتل نور الشمس ديدان الأرض. بل إن استعدادك للمعركة الفاصلة مع الإنجليز وحده سبب كاف لإلغاء القيود على الحريات.. فمن مصلحة هذه المعركة أن يكون جنودها أحرارا.. والقيود ستار للضعيف، وعذر للمتردد ولكنها عقبة فى سبيل الأقوياء المؤمنين. ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر.. فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفس بها المجتمع ويعيش.. والإنسان لا يتنفس فى وقت دون آخر.. إنه يتنفس حين يأكل، وحين ينام، وحين يحارب أيضا. إنك بكل تأكيد تضيق ذرعا بصحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا فى العناوين. حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانا بلاغ رسمى واحد.. والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه. وقد قلت مرة أنك ترحب أن تتصل بك أى جريدة إذا أحست الضيق.. ولكن.. أليس فى هذا ظلم لك، وللصحف، وللقضايا الكبرى التى تسهر عليها؟ ألم أقل أنك لن تستطيع وحدك كل شيء؟ فقد أقدمت - وفى شبابك الباكر - على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالى مصيره.. وليس كثيرا أن تجرب إطلاق الحريات.. إن التجربة كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة فى المصريين. وأنت أول من تجب عليه الثقة فى مواطنيه. «فاطمة اليوسف» 11 مايو 1953