لا أظن أن السيدة العظيمة والجليلة.. «فاطمة اليوسف» تحتاج إلي تقديم أو تعريف، يكفي أن تقول إنها «أسطورة الصحافة المصرية والعربية» أيضاً.. وهي بغير شك أيضاً «سيدة الصحافة» الحرة المقاتلة الجسورة والعودة إلي صفحات مجلتها «روزاليوسف» دليلي لما أقول! ويكفي حملة «الأسلحة الفاسدة» التي فجرها وكشفها ابنها الرائع أستاذنا الكبير «احسان عبد القدوس» بعد انتهاء حرب فلسطين 1948، وهو نفسه صاحب المقال الشهير «الجمعية السرية التي تحكم مصر» الذي كتبه عام 1954 وقد انتقد فيه مجلس قيادة الثوة بقيادة «جمال عبد الناصر» واتهامه بالديكتاتورية والتسلط! في تلك الأيام العصيبة من عمر مصر كتبت السيدة «فاطمة اليوسف» واحداً من أهم وأخطر المقالات السياسية في تاريخ الصحافة المصرية لقد فوجئ قراء «روزاليوسف» في عددها الصادر بتاريخ 11 مايو 1953 برسالة خاطبت فيها «جمال عبد الناصر» مباشرة، ودون لف أو دوران قائلة: «تحية أزكي بها شبابك الذي عرضته للخطر، وجهدك الذي تنفقه من أجل هذا الوطن، تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة.. أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتي كفرت بكل وجه يحمل ملامح القدم، فلا يسعدها اليوم شيء كما يسعدها أن تري الوجوه الجديدة تزحف وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير!! إنني أعرف الكثير عن ساعاتك التي تنفقها عملاً بغير راحة، ولياليك التي تقطعها سهراً بلا نوم، وتدقيقك البالغ في كل أمر بغية أن تصل فيه إلي وجه الصواب، ولكنك وحدك لن تستطيع كل شيء، ولا بالمعونة الخالصة من إخوانك وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلابد لك من معونة الذين لا تعرفهم أيضاً الذين يعيشون في جو غير جوك، ويتأثرون بعوامل غير التي تؤثر في أصدقائك ويمرون بتجارب كثيرة منوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس ولا عشرة ولا ألف!! وتمضي السيدة «فاطمة اليوسف» قائلة لجمال عبد الناصر بالحرف الواحد: إنكم باختصار في حاجة إلي الخلاف تماماً كحاجتك إلي الاتحاد إن كل مجتمع سليم يقوم علي هذين العنصرين معاً ولا يستغني بأحدهما عن الآخر!! وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك وقد قرأت لك غير بعيد حديثاً تطالب فيه بالنقد وبالآراء الحرة النزيهة ولو خالفتك ولكن أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حراً حقاً وعلي الفكر قيود وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس واستبدلت حديدها بحرير فكيف يتخلص صاحب الرأي من تأثيرها المعنوي؟! يكفي أن تجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه. يكفي أن يشم المفكر رائحة الرقابة وأن يري بعضس الموضوعات مصانة لا تمس ليتكبل فكره وتتردد ويصبح أسيراً بلا قضبان!! أتري إلي أي حد تفسد هذه القيود الجو؟! أتري إلي هذا الستار الكثيف الذي تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟! إن الناس لابد أن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقاً ووضعاً وطبعاً وقد دعت الظروف إلي إلغاء الأحزاب وإلي تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأي، وقد أصبح للعهد الجديد شعار واحد وألوان واحدة، فلم يبق شيء يمكن أن يتنفس فيه النقد وتتجاوب فيه جهات النظر غير الصحف وأسنة الأقلام وتفكير المواطنين، علي أني أعرف الدوافع. لإبقاء هذه القيود، أنت تخاف أنياب الأفاعي وفئران كل سفينة، أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون.. ولكن صدقني أن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا في ظل الرقابة وتقييد الحريات.. أن الحرية لا يستفيد منها أبداً إلا الأحرار، والنور لا يفزع إلا الخفافيش، أما الهمسات في الظلام والبسمات التي يبطنها النفاق والمدائح، فلا شيء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأي العام النابه الحريص. ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر، إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام، وحين يحارب أيضاً إنك بكل تأكيد تضيق ذرعاً بصحف الصباح حين تطالعها فتجد إنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا في العناوين، حتي بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحياناً بلاغ رسمي واحد.. والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه! وقد قلت مرة إنك ترحب بأن تتصل بك أية جريدة إذا احست الضيق ولكن أليس في هذا ظلم لك وللصحف وللقضايا الكبري التي تسهر عليها! ألم أقل أنك لن تستطيع وحدك كل شيء؟ لقد أقدمت وفي شبابك الباكر علي تجارب هائلة خضت بعضها ورأسك علي كفك لا تبالي مصيره وليس كثيراًً أن تجرب إطلاق الحريات. واختتمت السيدة فاطمة اليوسف رسالتها لعبد الناصر قائلة: ان التجربة كلها لا تحتاج إلا إلي الثقة في المصريين، وأنت أول من تجب عليه الثقة في مواطنيه. انتهت رسالة السيدة العظيمة «روزاليوسف» أما رد «جمال عبد الناصر» عليها فيستحق وقفة أخري.