لا يمكن أن يرضي أي غيور علي سلامة هذا الوطن بالجريمة التي شهدتها منطقة سيدي بشر بالإسكندرية قبل دقائق من حلول عام ميلادي جديد. وهذه الجريمة راح ضحيتها أكثر من عشرين مواطنا مصريا كانوا يحتفلون بأعياد الميلاد في كنيسة القديسين التي تقع علي بعد خطوات من أحد المساجد، لقد اعتقد المجرمون أن أعداد الضحايا سوف تنحصر في رواد الكنيسة ولم يخطر ببالهم أن دماء المسيحيين والمسلمين سوف تختلط وتمتزج مما يبين أن الأعمال الإرهابية لا تفرق. بين المواطنين، ومن المتصور أن المصريين يعرفون تمام المعرفة أن مصر لم تعرف التعصب والعنف والإرهاب عبر التاريخ حيث كانت دائما الملاذ الآمن لكل الطوائف والديانات السماوية التي تعايشت في سلام ووئام. لعل العلاقات بين المسلمين والأقباط كانت دائما تتسم بالمودة والإخوة منذ دخول الإسلام في مصر. فالمسلمون الأوائل الذين دخلوا مصر في عام 640م كانوا علي دراية كافية بتعاليم دينهم التي تدعو إلي المحبة ونبذ التعصب. ولو كان الإسلام يشجع علي العنف لما عاد إلي ديارهم هؤلاء الأقباط الفارون من ظلم الحكام الرومان، ولو كان الإسلام يحرض علي الإرهاب وكراهية الآخر ورفض الديانات الأخري لدمرت الجيوش الإسلامية كل الأديرة والكنائس في مصر تماما كما فعل الرومان الأرثوذكس. لقد كان عمرو بن العاص حريصا علي ترميم وإعادة بناء تلك الأديرة والكنائس التي تعرضت للتدمير علي يد الرومان، وفي المقابل - كما تقول المراجع التاريخية - فإن أقباط مصر ساهموا في بناء المسجد الجامع مسجد عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط، وهو يعتبر أول مسجد شيد في مصر، لا نبالغ إذا قلنا إن مصر لم تشهد أحداثا وصراعات طائفية إلا في العصر الذي نعيشه وخاصة مع بدء حقبة السبعينيات من القرن المنصرم. لقد بلغت معاناة مصر من الإرهاب ذروتها في التسعينيات حيث كنا نفاجأ من وقت إلي آخر بعبوة ناسفة في مقهي أو قطار لكن اللافت للنظر أن العمليات الإرهابية المتمثلة في التفجيرات والاغتيالات لم تستهدف الكنائس والأديرة. من المؤكد أن مدبري تفجيرات كنيسة القديسين يرمون إلي إثارة مشاعر الغضب في نفوس الأقباط بحيث تتكرر الأحداث الطائفية والاضطرابات التي اندلعت في العمرانية بالجيزة. لعل القارئ يتفهم غضب الإخوة الأقباط عقب التفجيرات في كنيسة القديسين لكن ما لا نتفهمه هو تلك المظاهرات التي تحدث في ساحة الكنائس حيث تعلو هتافات من عينة «بالروح والدم نفديك يا صليب»، لعل الإخوة الأقباط يشاطرونني الرأي إذا قلت إن مثل هذه الهتافات تأتي علي هوي المتعصبين ومدبري التفجيرات، لعل إخواننا في الوطن يتأسون بمظاهرات التنديد بالإرهاب التي اجتاحت الجامعات في كل مكان حيث رفعت أعلام مصر ورفعت اللافتات التي تتزين بالهلال والصليب في وضع التعانق علي اعتبار أن الإرهاب لا دين له ولايفرق بين المواطنين علي أساس الدين. لقد آن الأوان أن نفوت الفرص علي مثيري الفتنة الذين لا يريدون الخير لهذا الوطن الذي طالما رفض التعصب الديني. من المعروف أن مصر من البلاد الإسلامية القليلة التي لا تصنف أحياؤها ومدنها وقراها علي أساس ديني، كما أن الشعب المصري لم يكن يضع الديانة معيارا للصداقة، فهذه ابنة خالتي تقيم مع أسرتها في القاهرة وتحديدا في الزاوية الحمراء وتعيش بجوارها أسرة قبطية. لقد ارتبطت الأسرتان بعلاقات حميمة تجلت عندما حان زفاف نجلة قريبتي حيث أقيمت مراسم الزواج في الإسكندرية، لم أندهش حين علمت أن ربة الأسرة القبطية أصرت علي السفر إلي الإسكندرية حيث قضت سبعة أيام كاملة مع جارتها. وفي العقد الأول من ثمانينيات القرن المنصرم توجهت إلي جامعة مدينة بفلو «بولاية نيويورك» حيث لم يكن لي سابق معرفة مع المصريين المقيمين في تلك المدينة وتصادف أن التقيت شابا في منتصف العمر تشير ملامحه إلي أنه مصري حتي النخاع، فذهبت إليه قائلا: هل أنت مصري؟ فقال: نعم، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا احتضنه ولم يكن هذا الصديق سوي مدرس مصري يعتنق المسيحية، ولم نفترق منذ الوهلة الأولي، فقد كنا نتناول الطعام سويا ونذهب إلي الأسواق سويا ولا نفترق إلا عندما نخلد إلي النوم. ولا أذكر أننا تطرقنا إلي الدين طوال فترة اقامة هذا الصديق في أمريكا. لقد كنت اعتقد أن هذه المشاعر الطيبة بين أبناء الوطن الواحد قد اختفت حتي أخبرني أحد أبناء بلدتي أن عيد الأضحي الماضي شهد موقفا يدعو إلي التفاؤل حيث حضرت صديقة قبطية لزوجته خصيصا من مدينة طنطا للمشاركة في حفل زفاف ابنته. ندعو الجميع أن يعمل لتحقيق ثلاث أمنيات: نريد أن تعود مصر إلي سابق عهدها حيث يعم السلام والوئام أرجاءها. نريد أن تحقق مقولة البابا شنودة بأن تعود مصر وطنا يعيش فينا وليس وطنا نعيش فيه. نريد أن يعود الشعار الذي طالما حملناه في قلوبنا وهو الدين لله والوطن للجميع.