فيلم دكتور سترينجلاف 1964 أو كيف تعلَّمت أن أتوقَّف عن القلق، وأن أحب القنبلة، للمخرج ستانلي كوبريك. الفيلم يصنَّف تحت يافطة الكوميديا السوداء، أقصي درجات الكوميديا السوداء، أي أن الابتسامة هنا تقف في حلق المُدرَّبين علي تذوق هذا النوع من الكوميديا، ومع وقوف الابتسامة في الحلق يبقي صداها في العقل بهيجاً، وكأنَّ الكوميديا السوداء صُنعتْ من أجل مَنْ تحجَّرتْ قلوبهم، وأشرقتْ عقولهم. الفيلم يلفحه تيار جنون عنيف بدايةً من شخصية الجنرال جاك ربير، دور العمر للممثل ستيرلينج هايدن، الذي يأمر بتنفيذ الخطة R، وهي ضرب الاتحاد السوفيتي برؤوس نووية، وصولاً إلي شخصية الجنرال باك تيرجستين، ولعبها الممثل جورج سي سكوت، وانتهاءً بشخصية دكتور سترينجلاف العالِم بدمار القوي النووية، ومهدْهِد وحش العناصر المشعة الفتَّاكة الكوبالت ثوريوم جي بتهويدة فناء الملايين مع بقاء عينات إنسانية وحيوانية في أعماق منجم، تحية من ستانلي كوبريك لسفينة نوح، هناك كانت علي وجه الغمر، وهنا في أعماق الأرض، وهي من أجمل أدوار الممثل بيتر سيلرز الذي لعب أيضاً في الفيلم دور رئيس الولاياتالمتحدة ميركن مافلي، ودور قائد فصيلة الاتصالات الضابط ماندريك. الجنون في كل الأحوال له حكاية، وهي دائماً حكاية تعتدي علي الواقع بشكل همجي، وحكاية الجنرال ربير هي حكاية الماء، وتنويعات الحكاية، هي النقاء، والجوهر، والحياة. يعتقد الجنرال ربير أن شفط الماء أو تسريبه بفعل العدو الأحمر الشيوعي جار بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً منذ 1946، وأن الطعام، اللبن، الملح، الآيس كريم، السكر مقصود به شفط السوائل الإنسانية الثمينة، علي اعتبار أن الماء يحتكر70 بالمائة من جسم الإنسان، ولهذا يشرب الجنرال ربير بانتظام الماء المقطر. يسأل الضابط ماندريك الجنرال ربير، منذ متي وهو يطِّور هذه النظرية. وهنا تظهر عبقرية ستانلي كوبريك في أداء ورد الجنرال ربير علي سؤال الضابط ماندريك، إذ قد يصاب المختل عقلياً بخجل شبه واقعي علي أثر لمسة دقيقة مُفاجئة لبؤرة جنونه. يجيب الجنرال ربير بتردد، منذ أن أدرك أن قواه المادية في فعل الحب تنضب، أي تتسرب إلي مكان ما، فيشعر مع هذا النضوب بالفراغ والخواء. شيء عميق تحرَّك في روح الجنرال ربير، لكنَّ هذا لا يعني استسلامه وإعطاء الضابط ماندريك كلمة السر التي يستطيع بها إرجاع الهجوم النووي علي الروس، لا سيما أن الضابط ماندريك تمادي في لمس نبع الماء العميق لدي الجنرال ربير الذي دخل الحمَّام، وكأنه استسلم للمسة الضابط ماندريك الواقعية، وبينما يهدْهِد الضابط ماندريك جنون الجنرال ربير بتهويدة الماء، تعويذة الجنون، بأنهم خسروا قليلاً من الماء، وما زال هناك فرصة للتراجع إذا أعطاه الجنرال ربير كلمة السر، يخلع الجنرال ربير سترته ويتجه إلي الحمَّام، يعتقد الضابط ماندريك أن الاغتسال، الاستحمام، الإحساس الرائع بالانتعاش، الماء علي الرقبة والوجه، عودة السوائل الجسمانية الثمينة، ثم تأتي كلمة السر، وهنا يسمع الضابط ماندريك رصاصة انتحار الجنرال ربير. الجنون الحقيقي يسير دائماً إلي الكارثة، والكارثة ما زالتْ معقودة في البنتاجون فوق رؤوس الجنرال تيرجستين الذي ينظر في تقسيمة الدكتور سترينجلاف لسفينة نوح تحت الأرضية، ومفادها ذكر واحد لعشر نساء، بينما لا يقطع علي دكتور سترينجلاف صفو خطط ما بعد الكارثة سوي شيء بالغ الكوميديا، وهي يده اليمني المُقفَّزة بقفَّاز أسود، وهي التي تندفع في الهواء رغماً عنه لأداء التحية الهتلرية الشهيرة، أو تمسك برقبته، إنها عضو دخيل ينتمي إلي دمار شامل، والمُفارَقَة أن أعضاء دكتور سترينجلاف الأخري لا ترفض الدمار الشامل الفاشستي الهتلري، وتقره ضمناً بمشاعر باردة، لكنها في نفس الوقت تريد صفاء ما بعد الكارثة.