قدم ستانلي كوبريك فليما معاديا للطغمة العسكرية في الولاياتالمتحدة في الستينيات من القرن الماضي فضح فيه آلة الحرب الامريكية, الفيلم مقدم في قالب كوميدي من بطولة واحد من أعظم ممثلي الكوميديا في القرن الفائت البريطاني بيتر سيلرز والذي قدم في الفيلم ثلاث شخصيا بمكياج مختلف, ولكنها لم تكن كوميديا من نوعية اطلاق القفشات والنكات والمواقف الممجوجة التي اعتادنا عليها في السينما المصرية. فيلم كوبريك الذي أخرجه عام1963, والمعروف باسم دكتور سترينجلوف كيف تعلمت ان انسي القلق واحب القنبلة, كان كوبريك يهتم بشدة بمسألة الحرب النووية, فقد كان مشتركا في العديد من الدوريات والمجلات العسكرية. خاصة تلك التي تصدرها القوات الجوية, لذا فبمجرد ان قرأ رواية بيتر جورج التي تستخدم اسلوب الخيال العلمي والكوميديا في معالجة المسألة النووية, فكر مباشرة في تحويلها إلي عمل سينمائي, فكتب السيناريو. الفيلم يحكي عن جنرال لديه هوس معاداة الشيوعية يرسل سربا من القاذقات بي52 إلي الاتحاد السوفيتي, تحمل علي ظهرها العديد من القنابل النووية. يستدعي رئيس الولاياتالمتحدة( يتقمص بيتر سيلرز الشخصية) هيئة اركان القوات المسلحة في غرفة العمليات في حضور السفير السوفيتي ومن أجل السيطرة علي الموقف بسرعة, يتصل برئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ليخبره بالكارثة الوشيكة الوقوع, قائد الأركان في القوات المسلحة الامريكية( يقوم بالدور جورج سكوت) يوضح موقفه والذي يعد اكثر تطرفا تجاه الشيوعية من موقف الجنرال المجنون, الذي يعتزل العالم في مكتبه بمصاحبة احد الضباط البريطانيين(يؤدي الشخصية ايضا بيتر سيلرز والذي احتجزه الجنرال بالقوة). الجنرال المجنون يقاوم القوة المرسلة من قبل رئيس الجمهورية, وعند فشله في المقاومة.. ينتحر, الضابط الانجليزي المحتجز ينجح في معرفة الشفرة الخاصة بإلغاء, العملية, وتعود معظم الطائرات, فيما يسقط الباقي بواسطة اجهزة الدفاع الجوي السوفيتي, ولكن احدي الطائرات تنجح في الهروب وتلقي بالقنبلة علي أراضي الاتحاد السوفيتي, الدكتور سترينجلوف( بيتر سيلرز للمرة الثالثة) خبير في علوم الطاقة النووية لا يتوقف عن التحية بطريقة النازي, يصرخ فرحا عند ظهور صور الأرض وهي تحترق تحت نيران الانفجار النووي, ونسمع اغنية لامرأة تقول:( سنلتقي مرة ثانية, لا أعرف متي, ولا أعرف أين, ولكننا سنري من جديد الشمس تشرق) المقصود بالطبع الشمس التي ستختفي من جراء الغبار النووي. كوبريك يستمر في نقد المؤسسة العسكرية التي لا تتوقف عن التضخم السرطاني لتلتهم كل شيء يقف في طريقها, حتي لو كان البشرية جمعاء والوجود نفسه, تم رسم شخصية الجنرال المجنون بشكل منفر, فهو شخص متطرف يري آن الاتحاد السوفيتي يلوث مياه الشرب في أمريكا والعالم الغربي, ويسمم الغذاء عن طريق الاشعاع النووي, بل ينشر العقم بين الشباب الامريكي, صورة ساخرة ولكنها تعكس روح التطرف التي كانت سائدة ابان الحرب الباردة. هنا كوبريك يهاجم العسكرية الامريكية بعد أن هاجم نظيرتها الاوروبية في( أقواس المجد), وجيوش الامبراطورية الرومانية في( سبارتكوس) بل انه ايضا يهاجم عناصر الثقافة الامريكية. عبر سخريته من الفلكلور الشعبي الأمريكي, وإذاعته الاغاني الحماسية الامريكية اثناء ذهاب الطائرات لإلقاء القنبلة( حدثت مواقف مماثلة مع الجنود في العراق) كما يجعل قائد سرب الطائرات يرتدي قبعة راعي بقر من تكساس وهو في الجو, وكأننا في رحلة لاصطياد الغزلان في البراري الامريكية, أو حملة لابادة الهنود الحمر في احد افلام الوسترن( نفس ما فعله فرانسيس فورد كوبولا مع شخصية القائد روبرت دوفال في فيلم نهاية العالم الآن). قد يكون كوبريك استعان بالكثير من عناصر السينما الامريكية التقليدية, مثل استعراض المساحات الواسعة, وبالذات في معارك الجو التي يدين بها للعديد من أفلام الحرب الامريكية الشهيرة, والتي جعلت من الحرب استعراضا جميلا, لقد قدم سترن حربي.. وبالرغم من ذلك فإن الحرب عند كوبريك ليست استعراضا, بل كارثة لا مجال فيها لمنتصر, فالكل مهزوم لأن نتيجة كل حرب هي هزيمة الإنسانية جمعاء.. ولكن هناك حروبا يجبر عليها البشر لأنهم يدافعون عن أرضهم وحياتهم. وليست هذه هي الحروب التي يقصدها كوبريك فهو يقف في صف البشر المدافعين عن أرضهم كما سيتضح بعد ذلك مع فيلمه خزنة مليئة بالرصاص. حيث فضح آلة الحرب الأمريكية ضد فيتنام ان ما يقصده كوبريك.. الحروب التوسعية الاستعمارية التي تشحن فيها آلة الحرب للدفاع عن مصالح الفئات المسيطرة التي تعتمد علي العسكريين في تنفذ مطامعها العسكرية, هؤلاء الذين تحولوا إلي محترفي حرب مجانين مثل جنرال كوبريك في الفيلم والذي بدلا من ان يكتفي بإلقاء ابناء وطنه في محرقة الحرب.. يدمر البشرية كلها بما فيها وطنه نفسه.. عندما يصرخ السفير السوفيتي( أنهم ليسوا سوي مجانين) يقصد الامريكيين بالطبع ولكن كوبريك يقصد السوفيت ايضا لاشتراكهم في سباق التسلح النووي حتي لو كانوا قد اجبروا عليه, لقد زال الاتحاد السوفيتي القديم من الوجود وزالت الحرب الباردة ولكن الطغمة العسكرية الامريكية تزداد شراسة كل يوم ومن الواضح ان وجود البعض يأتي من تدمير الآخر, لقد أعلن كوبريك موقفه منذ ما يقرب من خمسين عاما من خلال فيلمه السينمائي ولكن علي ما يبدو ان المشهد مازال علي ما هو عليه مع تغيير بعض التفاصيل. [email protected]