بالأمس قال لي ليو أفريكانوس الذي زار مصر منذ أكثر من خمسمائة سنة إن أهل القاهرة مرحون، فرحون، مبتهجون ( Merry, Jocund, cheerful) وهذه الصفات تعد بإنجاز كبير، غير أن أداءهم محدود ( ومازالوا كذلك يا عم أفريكانوس) وهم يمارسون التجارة وفنون الصناعة غير أنهم لا يسافرون خارج بلادهم. قاطعته: عاوزهم يسافروا يروحوا فين..؟ بشر يتمتعون في مكانهم بكل هذا المرح والفرح والبهجة والمزاج العالي.. ما الذي يدعوهم للسفر؟ السفر والترحال يتطلب أرواحا قلقة مثل روح حضرتك وحضرتي، ولكن بالنسبة لهم مغادرة المكان ستكون مصدرا لألم عظيم. في طفولتي عندما كان أحد الفلاحين يغادر بنها إلي القاهرة كان أهل قريته يودعونه علي محطة القطار.. وبعد ساعتين من وجوده في القاهرة يبدأ في إرسال خطابات مؤلمة عن معاناته في الغربة.. معظم قصائد شعراء العامية المصرية تتكلم عن الألم الشديد الذي يشعرون به في القاهرة بعيدا عن قريتهم الحبيبة، عن تلك المدينة القاسية والبشر الوحوش سكانها، والنغمة الأساسية فيها هي أن الولد ضاع في البلد، إنه إحساس قوي بالغربة عند مغادرة المكان، حتي لو كان المكان الذي انتقل إليه أحواله أفضل بكثير، وفي العواصم العربية وحتي في أوروبا وأمريكا، عندما ينبعث صوت المطرب من الراديو باكيا.. غريب الدار، علي جار زماني وظلمني.. كان سكان البيت من المصريين المهاجرين ينخرطون علي الفور في نوبة بكاء حاد.. ما علينا.. اتفضل حضرتك أكمل حكايتك اللذيذة. قال ليو: هناك طلبة كثيرون يدرسون الشريعة، عدد قليل جدا منهم يدرس العلوم والفنون الحرة، ومع ذلك فمدارسهم دائما ممتلئة غير أن عددا قليلا منها يتسم بالجودة، المطاعم تفتح أبوابها لساعة متأخرة من الليل ولكن الورش تغلق أبوابها قبل العاشرة مساء، بعد ذلك ينصرف أصحابها للترويح عن أنفسهم بالانتقال من ضاحية إلي أخري. وهم يستخدمون في أحاديثهم ألفاظا سوقية مبتذلة أعف عن ذكرها، تصور أنه يحدث أحيانا أن تذهب الزوجة إلي القاضي وتقول له إنها لا تشعر بالانبساط مع زوجها فيطلقها علي الفور طبقا للشريعة..؟! يا عزيزي ليو.. بعد زيارتك لمصر بثلاثمائة عام، أي في بداية القرن التاسع عشر، زارنا رحالة انجليزي عبقري هو إدوارد لين.. وشعر أيضا مثلك بالصدمة من حكاية استخدام المصريين لهذه الألفاظ السوقية المبتذلة، التي يسمي فيها الفعل باسمه والأعضاء باسمائها، لدرجة أنه قال لو أن مومسا انجليزية استمعت لهذه الألفاظ التي تقولها المرأة المصرية ببساطة لاحمر وجهها خجلا، غير أنه اكتشف أن استخدام هذه الألفاظ يتم بشكل طبيعي لايخفي وراءه أي هدف أو نية خبيثة، المسألة يا سيد ليو أن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن يعرف النفاق أو المداراة أو الخوف.. مع أن كل كتب التراث العربي تذكر كل هذه الألفاظ ببساطة.. ولكن هذا ليس موضوعنا، من فضلك كلمني عن المبدعين، أقصد هؤلاء الذين يبتكرون شيئا جديدا. قال ليو: نعم.. الابتكار أو الإبداع الجديد.. اسمع يا سيدي، الصانع الذي يبتكر شيئا جديدا، يلبسونه ثيابا مذهبة ويحملونه وتمشي خلفه فرقة موسيقية وكأنه موكب نصر، ويمشون به علي الدكاكين من دكان إلي دكان، يعرض عليهم ابتكاره فيشاهدونه ويعطونه نقودا تقديرا لإبداعه، أنا شخصيا شاهدت واحدا من الصنايعية وهو يمشي وخلفه الفرقة الموسيقية، كان يحمل بين يديه لوحا من الورق يريه لكل الناس.. الورقة كان عليها سلسلة من الفضة، سلسلة دقيقة جدا لدرجة أنه ربط فيها برغوثا.. البرغوث كما تعلم قوي للغاية لدرجة أنه كان يحرك السلسلة وهذا يدلك علي مدي خفتها.