لآجال طويلة كانت معادلة الحياة علي وادي النيل ثابتة لا تتغير، الفلاحون يزرعون والغزاة يأكلون والحياة تمضي في طريقها هادئة بلا متاعب. قليلة هي المرات التي امتنع فيها الفلاحون عن زراعة الأرض فجاع الغزاة نتيجة لذلك، ربما يذكر التاريخ مرة واحدة شديدة السواد أطلق المؤرخون عليها اسم الشدة المستنصرية، أكل فيها المصريون كل ما لا تتخيله ولا داعي للتفصيل حفاظا علي أمزجة القراء، ولسبب آخر ، لو أنني قلت لك ماذا أكلوا لعزفت عن تناول الطعام بقية حياتك. كان السبب في هذه المجاعة هو عدم وفاء النيل لسنوات طويلة، غير أنه عاد مرة أخري يفيض بالخير علي أرض الوادي ولكن الفلاحين عجزوا عن القيام بعملهم الذي يمارسونه من آلاف السنين لسبب طريف هو عجزهم عن الوصول لحقولهم لا نتشار اللصوص وقطاع الطرق، وذات يوم قرر الحاكم المملوكي الحفاظ علي معادلة الحياة الأبدية، فقام بحملة عسكرية شاملة استخدم فيها عصابة شهيرة من قطاع الطرق تولت القضاء علي بقية العصابات وعاد الفلاحون ليزرعوا وعاد الغزاة يأكلون بالهناء والشفاء. أكذب عليك وعلي الناس جميعا لو قلت لك إن مهنة فلاحة الأرض في مصر كانت تحظي باحترام سكان المدن، كانت أشبه بالقدر القاسي أو سوء الطالع الذي يلاحق بعض الناس منذ أن يولدوا إلي أن يموتوا. وعندما جاءت الثورة كانت في حاجة لطبقة داعمة فورية تستعين بها علي مواجهة أعدائها وهم كثر فوجدت الفلاحين، ولأن زيادة الخير خيرين أضافت لهم طبقة العمال غير أنها حرصت طول الوقت علي بقائهم علي أحوالهم. مع إضافة بعض اللمسات الجمالية عن طريق االمهرجانات والأغاني والاحتفالات السياسية التي رصد منها المؤرخون أن بعض الفلاحين بقي عندهم خمسة فدادين كما تم رصد أحد الفلاحين وهو يمشي مغنيا من جنب السور. هكذا احتل الفلاحون مكانا جديدا علي خريطة المجتمع المصري، ليس بوصفهم فلاحين يعملون بفلاحة الأرض وهي المهنة الرئيسية الضرورية لبقاء الشعب المصري علي قيد الحياة ، بل بوصفهم قوة سياسية. تستخدم عند اللزوم علي رقعة الشطرنج السياسي، غير أن المعادلة ألأبدية ظلت علي ما هي عليه، هناك من يزرع وهناك من يأكل وبينهما برزخ لا يلتقيان. كل اللفتات الكريمة تجاه الفلاحة والفلاحين كانت علي سبيل العطف والحنان، وهو ما يذكرك بالمثل الشعبي ( زي الوز.. حنيّة بلا بز). كان هناك اهتمام ظاهري بالفلاح إلي الدرجة التي جعلوه فيها لا يكتفي بالمشي جنب السور مغنيا بل جعلوه عضوا في مجلس الشعب هو وزميله العامل فانتهزا الفرصة وتخلصا علي الفور من تلك الوصمة الاجتماعية وهي أن تكون فلاحا أو عاملا . لا أحد يستطيع إخفاء ما يفكر فيه إلا لأجل قصير، هكذا أخذ الخطاب السياسي في مصر يتكلم عن الفلاحة بوصفها مؤامرة إمبريالية ، هناك أوغاد يحاولون إقناعنا بأن مصر بلد زراعي وهدفهم هو ألا نلجأ للتصنيع، لا بد للتصدي بقوة وعنف لهذه المحاولات، هكذا توارت وربما تراجعت فكرة فلاحة الأرض إلي الوراء بينما دارت عجلة التصنيع لتنتج من الإبرة إلي الصاروخ، لا أعرف ماذا حدث للإبر، غير أني أعرف ما حدث للصواريخ. والآن أقول لكم: أنا أشعر بانزعاج شديد من الارتفاع المفاجئ لأسعار الخضروات كما أقول إن جولة سريعة علي المدن الجديدة بما تحويه من فيللات وقصور لا يسكنها أحد أقنعتني بأن الفلاحة لم تعد تحتل مكانا في عقول الصفوة، نعم الإقطاع كان يبني قصورا ولكنه كان يبنيها في الحقول.. حي علي الفلاحة.