أكتب لكم من محافظة الغربية، من قلب دلتا مصر، وحيث ريف مصر العظيم الذي كان من أجمل ما فيها، وعلامة بارزة علي أن الأرض المصرية هي أرض للخير والعطاء مادام النيل يجري فيها، ومادامت الزراعة هي الحرفة الأساسية الأولي لشعبها. والآن فإن الصورة أصبحت مغايرة تماما لكل ما كان من قبل، فالريف العظيم أصبح أيضا من ذكريات الزمن الجميل الذي نشاهد معالمه في أفلام الأبيض والأسود الخالدة. فالصورة التقليدية عن الفلاح الذي كان يستيقظ مع تباشير الفجر لم تعد موجودة، والفلاح نفسه ربما لم يعد كذلك موجوداً، وأخلاق أهل الريف تغيرت، والعادات اندثرت، والأجيال الجديدة أضحت مسخا مشوها لواقع لم يعد ليسر أحدا..! والأراضي الزراعية تتناقص تباعا، والمباني السكنية تلتهم وتغزو هذه الأراضي، وكل فلاح يحلم ويتمني أن تتحول أرضه الزراعية إلي أراض للمباني حتي يتحول معها إلي واحد من أصحاب الملايين لا يتعب ولا يعمل ولا يزرع لأن أسعار أراضي البناء أصبحت فلكية بصورة مبالغ فيها. والفلاح الآن لا ينتج شيئا ليأكله، وأحيانا لا يوجد في منزله ما يأكله، فهو يشتري كل شيء الآن من الأسواق بعد أن كان يتوافر لديه كل شيء من إنتاج بيته وحقله. وكان نادرا أن تمر في شوارع أي قرية دون أن تحاصرك رائحة الخبز المنبعثة من كل البيوت حيث كان الفلاح يقوم بصناعة خبزه بنفسه، وهو واقع تغير الآن وأصبح الفلاح من ضمن الذين يقفون في طوابير الخبز الطويلة لشراء رغيف القمح الذي لم يكن يأكله أبداً فيما مضي. ونفس الحال علي بقية المواد الغذائية الأخري، فلا ألبان ولا أجبان ولا بيض ولا سمن من إنتاج المنزل وإنما هناك إقبال فقط علي الشراء من محلات البقالة والأسواق. ولأن الفلاح لم يعد يعرق كما كان في الماضي فإن أمراض الكسل قد كثر انتشارها، وأصبح الفلاح مصابا بأمراض السكر والضغط مثل سكان المدن، فلا حركة ولا مجهود وإنما هناك ترقب وانتظار وندرة تطللعات تجتاح الفلاح الذي أصبح راغبا في ترك أرضه والجري وراء سراب العمل في أية دولة أوروبية ليعود بعدها ومعه "الخواجاية" ويبني بيتا حديثا أو يقيم مشروعا تجاريا مثله مثل الكثير من أقرانه الذين يشاهدهم وقد غابوا عنه في الخارج عدة سنوات وعادوا بعد ذلك سادة محترمين يتحدثون عن الدولار واليورو. والصورة في الريف اختلفت أيضا بعد غزو "التوك توك" للقري، فهؤلاء الغزاة الجدد نشروا ثقافة همجية غريبة علي أهل الريف، ودخلوا البيوت بألفاظهم السوقية وبذاءاتهم في التعامل وعدم احترامهم لكبير أو صغير وحوادثهم المتكررة في كل مكان ومعاكساتهم التي لا تتوقف وحيث لا رقيب ولا حسيب عليهم ولا أحد منهم يحمل "رخصة" للقيادة ولا أرقاما ل "التوك توك". وظاهرة المعاكسات في الريف أصبحت مقلقة ومخيفة، والطالبات اللاتي يتوجهن إلي مدارسهن أو جامعاتهن بالقطار أو بسيارات الأجرة يتعرضن لأسوأ أنواع المعاكسات التي تصل إلي حد التحرش الجنسي السافر والوقح وحيث لا يوجد في هذه القطارات شرطي واحد لحمايتهن أو لمنع التعرض لهن. والآفة الكبري التي طالت الفلاح في هذه القري تتمثل في الاعتياد علي السهر حيث انتشرت المقاهي في كل مكان، وصالات الأفراح تملأ جوانب الطرق الزراعية والدش بكل قنواته المباح منها وغير المباح موجودة ومتوافرة في كل هذه الأماكن تنشر سمومها وتثير داخل النفوس أحلاما ورغبات وتزيد من عدم قناعة الفلاح بما هو عليه وتدفعه دفعا إلي أن يهجر أرضه ويرفض واقعه. ولهذا لم نعد بلدا زراعياً.. ولم نفلح أيضا في أن نكون بلدا زراعيا، وخسرنا الاثنين معا وأصبحنا في النهاية بلدا مستوردا لكل شيء لأن إنتاجنا المحلي الزراعي أو الصناعي لا يكفي أو ليس علي المستوي المطلوب..! ولهذا أيضا تتآكل ميزانية الدولة وتتعطل خطوات النمو والتحديث ونخرج رويدا رويدا خارج دائرة التاريخ لأننا فقدنا أهم ركيزة كانت متوافرة لدينا وهي الزراعة، فهي العمود الفقري لاستقرار هذا المجتمع واستبدلناها بشعارات الألف مصنع وصناعات من الإبرة للصاروخ، والمصيبة أننا حتي الآن لا ننتج إبرة محلية جيدة الصنع..! [email protected]